الأحد، 17 أغسطس 2025

هاجَر

هاجَر

في أعوامي الأولى في كلية التربية الأساسية أخذت مادة (التربية الخاصة) عند الدكتور هاني القطان. في أوّل محاضرة أراد أن يختبرنا، أن يختبرَ الإبداع الذي عندنا، فرسم على اللوحة قوسًا مفتوحًا لأعلى، وقال: أكملوا هذه الرسمة. وبعد دقائق انتهينا، انقسم الطلبة بدءًا إلى ثلاثة أقسام: قسم بدأ مباشرة باستنباط رسمة من هذا القوس، وقسم ضحك وحاول التملص ولكنه رسم في النهاية، وقسم لم يحاول.

بدأنا عرض رسماتنا، غلب على رسمات الطلبة رسم وجه يضحك، فقال الدكتور: من رسم وجهًا يضحك فهذا ليس عنده إبداع. ثم قدّم آخرون وهم أقلّ رسمات لمئذنة مسجد، وأرجوحة وغير ذلك، فقال: أنتم مبدعون، وهكذا نجد أنكم انقسمتم.. فرفعت يدي وقدمت له رسمتي، كانت مبخرًا! سألني في البداية: كيف؟ فقلت: إذا نظرت إليه من جانبه ستراه مقوّس الأعلى. فقال: بعضكم ليس له إبداع، وبعضكم مُبدع، وزميلكم هذا لديه أصالة!

منذ تلك اللحظة وأنا أنمّي هذه الأصالة، فأحاول الخروج عن الأفكار الأولى التي تطرأ لي حين أكون بصدد عملٍ إبداعيّ، فأسمّي قناتي على اليتيوب: مداك العروس. وأترك تسميتها بمسميات الورق والكتابة وللحبر، كناشة مداد وغير ذلك، ثم أحتاج إنشاء قناة على التليغرام للمختارات الشعرية فأترك تسميتها المختارات وأسميها: المستجاد المستعاد، وهكذا.

فمما أممتُ فيه الأصالة اختيار الاسم الدي أشبّب به، فإن ليلى ولبنى وسلمى وأسماء أسماء جميلة؛ ولكن إذا أوردتها فارقت الأصالة التي وسمني بها الدكتور هاني، فاخترتُ اسمًا غريبًا على الشعر، اسمًا لم يرتبط بالرومانسية، اخترت: هاجَر.

هاجر؟ أهي امرأة حقيقيّة أم نسجُ خيالك؟ هذا السؤالُ يردُني كثيرًا، وأحسبه سؤالًا لا فائدة منه، بل لعله يُفسدُ عليك وعليّ، فإنها إذا كانت حقيقية وأنكرت أكون كذبت، وأفسدت عليك شعور الحقيقية، وكذلك إذا لم أكذب، وإن لم تكن حقيقية وصدقتك القول أكون أفسدت عليك وإذا كذبت جمعت السيئتين كذلك. فهذا سؤال لا فائدة منه ولا عائدة.

ما الذي حدث عندما اعتمدت الاسم في شعري؟ حَسب الناس أنه اسم شاعريّ، فمرّ بي كُثُر يوردونه في أشعارِهم، ولا أدري أهم حسبوه كليلى وسلمى، أم أنهم صادقون ووجدوني مهّدت لهم طريق التصريح؟

وقد ارتبط بي الاسم جدًا، لأني أمضيت سنوات أورده في شعري، فقال أحدهم:

كأني خالدُ الحمدانُ يُلفىٰ

بهاجَرِهِ أخا قلقٍ عميدا


فيصبح والهوى يجني عليهِ

ويُرهقهُ إذا أمسىٰ صَعودا

(ملاحظة: أرى أن يقال: خالدُ الحمدانَ، لأن أل هي آل فيكون حمدان مضافًا إليه علامة جره الفتحة لأنه ممنوع من الصرف، خالدُ آلِ حمدانَ)

ونُسبت إليّ أبيات لم أقلها، كهذه الأبيات وهي لحذيفة العماري:

أرى هاجَرًا في كلّ شيءٍ تلوحُ لي

ففي كلّ لمحٍ بعدَها أقتَلُ الداءِ


أأقصِدُ شُربَ الماءِ عطشانَ أبتغي

رواءً فيبدو طيفُ هاجَرَ في الماءِ؟

وحذيفة أشبه الشعراء أسلوبًا بي، إلا أنني لا أقول: أقتَلُ الداءِ.

وقد قلّبت الاسمَ كثيرًا وصرّفتُه في كلّ وجهٍ بحسب ما يأمرُ وزنُ البيت، فقلت في هاجر:

ولقد علمتُ بأنّ عمري ضائعٌ

وبحُبّ هاجَرَ لا محالةَ فانِ

وجعلتُه هُجرى فقلت:

قيل لي استبدلْ بهُجْرىٰ غيرَها

‏بئسَ رأي الناس في الحب البَدَلْ

وقلت هُجَيْرة:

أناديها هُجَيرةَ وهي أنأى

من النجم الذي قسمَ السماءَا

وقلت في هاج مرخَّمًا:

يا هاجُ كم حاجةٍ قد بتُّ أكتمُها

عن الذين أصافيهم وكم كَمَدِ

وقلت في هَجْر:

إيّاكِ يا هَجْرُ فؤادي أمّا

لم يلتفتْ مدحًا جنى أو ذَمّا

ما الذي أنصحكم به معشرَ الشعراء؟ أنصحكم أولًا ألا تكتبوا الغزل، ما لكم وله؟ فإن أبيتم، فاختاروا اسمًا، نحو: أسماء، نجلاء. فهذه الأسماء سهلة التصريف: أسماء، أسما، أسمُ، أسمَ، أُسيماء، أسيما، أسيمُ، أسيمَ.

فتستفيد بذلك أنك لا تتعطل في قول بيت على أي بحر، فتقول على البسيط:

رأيتها حين طالَ الليلُ في حُلَلٍ

فقلتُ أسماءُ لكنّ الخيالَ مضى

وتقول على الطويل:

وإن أسَيْمًا حينَ بانت حمولُها

لكالظبي ريعتْ في الكناسِ فرائصُهْ

وتقول على الوافر:

إذا ما جئتَ أسما في صباحٍ

فلا تنظر إليها يا رسولُ

وإما جئتَها والليلُ داجٍ

فمبسمُها لباغيها دليلُ

وتقول على الخفيف:

يا أسمياءُ إن قلبي خَفوقٌ

فاجعليه ما بين كفّيكِ يهدا

وتقول على المنسرح:

والعينُ من حبّها لها نُطَفٌ

تكتب فوق الخدّينِ أسماءُ

وتقول على الرمل:

عادني ذكرُكِ يا أسمُ ضُحى

فكتمتُ الحبّ حتى عن ظِلالي

فالظلالُ واشياتٌ بالذي

بتُّ أخفي من شُرودي واعتلالي

ونقول على الكامل:

ثقُل الهوى بك يا أسيما حقبةً

فهجرتِ فهْوَ كأنه ما كانا

ونقول على السريع:

إنّ أسما حينما جُلِّلَتْ .. بجمالٍ حُجِبَتْ عن عيوني

فاعذلوني في هواها زمانًا .. فإذا أيأستُكم فاتركوني

ونقول على المجتث:

القلبُ عند أُسَيْما .. معلّقُ الآمالِ

فليسَ يسمعُ ماذا .. مقالةُ العُذالِ

ونقول في المتقارب:

رأيتُ لأسماءَ في الليل نورا

كشمس تضيءُ ضياءً كبيرا

سوى أن ما بيننا من دعاءٍ

دعاءُ الفرزدقِ يعني جريرا

ونقول على المديد:

إنما أسماءُ ياقوتة .. أُحصِنَتْ في قعر بحرٍ عميقْ

كلّما مرّت على قلبِهِ .. غادرتْه كالجناح الخفوقْ

ونقول على المقتضب:

أسْمُ إنني رجلٌ .. الكلامُ يُسعدُهُ

أسمعيهِ عن عُرُضٍ .. فالسكوتُ يُجهِدُهُ

وعلى الرجز، وهذا البحر يصلح فيه كلّ الكلام:

ناديتُ والحبُّ بقلبي يسْمو

أسما أُسيماءُ أُسيمُ أسْمُ

وعلى الهزج:

جميلُ الذِكرِ يا أسماءُ في الدنيا لذو حُسْنِ

فعودي للذي يهواكِ عودَ الطيرِ للغُصْنِ

وعلى المضارع، على المضارع؟ سأتركُه لكم، وأصعب شيء تركت، السلام عليكم.

هناك 10 تعليقات:

  1. المضارع:
    لأسماء رسم دار
    تراوحته الخطوبُ

    إذا الحيا جاد حيناً
    برسمها فاح طيبُ

    ردحذف
    الردود
    1. جميل، أخذت في ضربه السهل الذي يشبه المجتث (:

      حذف
  2. مقال أصيل

    ردحذف
  3. لاحظت فعلا من زمان اختلاف اسماء قنواتك عن جيرانك وكان هذا يميزك

    ردحذف
  4. جزئية هل هاجر حقيقية او لا ؟ باموك قال في كتاب الروائي الساذج والحساس شي اسمه لعبة المرايا : يعتقد الكاتب أن القارئ سوف يعتقد بأن هذا الحدث هو تجربة حقيقية، والقارئ يعتقد أن الكاتب قد كتب هذا التفصيل لظنه بأن القارئ سوف يعتقد أنها تجارب حقيقية، الكاتب بدوره يعتقد أن القارئ سوف يعتقد بأنه قد كتب هذا الحدث لاعتقاده بأن القارئ سوف يعتقد هذا أيضاً.

    ردحذف
  5. أنا من الَّذِين تأسرهم الاختلافاتُ الجذابة، والإبداعات المتفردة؛ فأنا أعاني صعوبةً من الخروجِ عن المألوف وإطلاقِ العنان للإبداعِ الكامنِ في أعماقِي. بالفعلِ لاحظتُ تميزك باختلافِ اسم ( هاجَر) الشاعري، ولما فيهِ من جمالٍ ومعان، إلى جانب أنني استغربتُ أولَ الأمرِ من أسماءِ قنواتك على منصات التواصل الاجتماعي... ( هاجَر) يالهُ من اسم!
    - J

    ردحذف

الحَلُّ لكل شيء

 الحلُّ لكلّ شيء حين يجلس وحدَه رجلٌ كثير التفكير والقلق تصل به أفكارُه إلى مُعضِلاتٍ لا حلّ لها، ولا يرتاح باله حتى يبلغ بعَقْدِه الأفكارَ ...