جرير خَنّاق الرجال
كانت امرأةٌ من بني يربوع حاملًا، فرأت في منامِها أن حبلًا خرجَ منها، وانطلق إلى أعناق الرجال يخنقهم، فلمّا وضعته سمته جريرًا (الجرير هو الحبل).
عاشَ جرير حياتَه كما يعيشُها أي أعرابيّ، بين مجالس الحكمة والشعر، ورعي الغنم والإبل. وفي ساعة من نهار كان جرير الغلام يرعى إبل أهله، فحلبَ لهم إعجالةً، وأقبل بها على قومه، فرأى الناس مجتمعين، فقال: ما لكم؟ قالوا: هذا غسّان بن ذهيل يُنشد بنا! أي يهجوهم، وغسان كان شاعرَ بني يربوع، غير أنه من فرع آخر ليس من كليب بن يربوع رهط جرير، وقد هجاهم لأن بني كليب أوسعوا بني جحيش هجاءً، ولم يكن في جحيش شاعر، فاستعانوا بغسان السليطي. ولم يزل غسّان يهجوهم، وجرير يتفلّت إليه ليهاجيه فيقولون له: ما لك ولذلك إنما أنت غلام. حتى كان هذا اليوم، فحين جاءهم حَمِيَ، وقال: احملوني على بعير. فأتوه بقَعود، فأشرف على غسّان ومن معه، وقال -وهو إذ ذاك غلام لم يقل شعرًا من قبل-:
لا تحسبَنّي عن سليطٍ غافلا
إلى آخر الأبيات. وما زالا يتهاجيان، يقول غسان خمسة أبيات فيرميه جرير بثلاثين، ويعود غسان بسبعة، فينقضها جرير بمثلها ويزيدها عشرين، يقول غسان:
لعمري لئن كانت بجيلةُ زانَها
جريرٌ لقد أخزى كُليبًا جريرُها
يعني الصحابي جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه كان زينةً لقبيلته بجيلة، وجرير الشاعر خزاةً لكليب بن يربوع، ظن غسان أنه أغلق المعنى على جرير، فجعله بمواجهة مع الصحابي الجليل، ولكنه أخطأ إذ لم يجعلها مقارنةً صريحةً، وجرير العبقري لا يخضع تحت ضغط هذه المغالطة، فقد ردّ على شأنه، ولم يتعرض للصحابي الكريم، بل نصب سليطًا، وجعلها تدافع عن نفسها كما تدافع الخِربان، وكأنه يعني هنا غسانًا نفسَه هو آلة دفاعها، فقال جرير ينقض البيت:
بأستاهها ترمي سليطٌ وتَتّقي
ويرمي نضالًا عن كُليب جريرُها
واستمرّا هكذا حتى صار جرير يفتل ويهجو، ولا يستطيع غسان أن يُجيبه، وخبت جمرة غسان السليطي، ونُسي.
وصارَ جريرٌ وبالًا على الشعراء طوال حياته، لا يهاجيه أحد إلا سحقَه سحقًا، إلا ثلاثة ما غلبهم ولا غلبوه: الفرزدق، والأخطل، وعُمَر بن لجأ، أما الأولان فهما فحول يوازونه في الجودة، وأما عُمَر بن لجأ فهذا الذي وَضعَ الله به رفعة جرير، وقد قال النبي ﷺ حين سُبقت ناقته فشقّ ذلك على أصحابه: (حقّ على الله ألا يرتفع شيء من الدنيا إلا وضعَه) فكان عُمَر بن لجأ وهو شاعر مغمور، دخل في هجاء جرير، وما استطاع جرير أن يغلبه، وسُئل جرير عن هذا فقال: لم أجد مجدًا فأهدمَه! كان ذلك من حظّ عمر بن لجأ أن رهطَه كانوا قرويين لم يخوضوا حروبًا، فلم يجد جرير في تاريخهم شيئًا يعيّرهم به، أما عمر بن لجأ فكان يسرح ويمرح في تاريخ كليب بن يربوع، فهو تاريخ عريق من البطولات والحروب، وكلّ قبيلة تدخل في حروب فلا بدّ لها من هزائم وانتصارات، والهزائم أكبر أبواب الهجاء، قتلنا فلانًا ولم تفعلوا شيئًا، وقتل في جواركم فلان ولم تفعلوا شيئًا، لولا عزهم ما استجار بهم أحد، ولكن لا بد من هذه الأخطاء التي يستغلها المتهاجون.
وجرير لم يكن يستطيع أن يسحق تميميًا، لأنه تميمي، ولكن إذا كان ضعيفًا فيخنقه، كما حدث مع غسان السليطي والبعيث، لم يدمّرهم بهجاء القبائل والتعيير بالأيام، بل دمّرهم لأنهم لم يستطيعوا مجاراته، وهجاء قوم من قبيلتك من أصعب أبواب الهجاء، ولولا أن الله أيّد حسان بن ثابت بجبريل عليه السلام ما استطاع أن يهجوَ قريشًا ويتجنّب ذكر كل ما يتصل بالنبي ﷺ من فروع وأصول، هذه تحتاج أن تكون فحلًا كحسّان، ويؤازرك علامة في النسب كأبي بكر ويؤيدك روح القدُس!
من أمتَع أبواب الشعر بابُ النقائض، فالإمتاعُ في قراءة قصيدتين متعلقتي المعاني ببعضهما بعضًا إمتاعٌ قلّ نظيره. والنقائض كاسمها قائمةٌ على النقضِ وهو ضدّ الإبرام والفَتْل، فيقول جريرٌ قصيدةً يفتل فيها معانيَ الهجاء والفخر، فيقوم الفرزدق ويقول قصيدةً تنقضُ هذه المعاني، وتنتهي المعركة هكذا بالتعادل، وقد عاش جرير والفرزدق حياتهما كلٌّ ينقض على الآخر، وما استطاع أحدُهما أن يأتيَ بمعنى لم يستطع صاحبُه أن ينقضَه، ولو حدث ذلك لغُلّبَ أحدهما على الآخر ولكن ذلك لم يحدث حتى مات الفرزدق قبل جرير ورثاه جرير.
أما الذين غلبهم جرير فكثير، منهم غسّان السليطي، وسراقة البارقي، والبعيث، والعباس بن يزيد الكندي، هذا الأخير دخل في هجاء جرير في أسوأ وقت تعادي فيه جريرًا، وذلك حين هجا الراعي النميري، والكندي هذا ليس له ناقة ولا جمل، ولكنه لم يكن موفقًا، فجاء ونقض بيتت جرير:
إذا غضبت عليك بنو تميم
حسبت الناس كلهم غضابا
فجاءت كندة تطلب من جرير ألا يذكرهم، فقال لهم: إن كنتم صادقين فاذكروا لي مثالبه. ذلك ليهجوَه ولا يتعرّض لكندة، ففعلوا ذلك، فهجاه هجاءً شديدًا على نفس قافيته البائية، وكان يسمي قافية الباء: المنصورة. وفي الأبيات ذكر فضيحةً تطعن في نسب العباس بن يزيد، لا يعلمها إلا هو ورهطه، فلما بلغته الأبيات مات من الكَمَد!
ومنهم وهو أشهر من سحقهم ومحقهم وأشعرهم؛ راعي الإبل النميري، وكان شاعرًا فحلًا، وهو رابع أربعة في الطبقة الأولى عند ابن سلّام: جرير، والفرزدق، والأخطل، والراعي.
الراعي النميري ليس ضعيفًا، ولكنّ جريرًا أتاه ببيتٍ واحد في قصيدة قِوامُها ثمانون بيتًا، كلّها يسيرة على الراعي، ولكن بيتًا واحدًا لم يستطع الراعي نقضه، فغُلِب، وانهار صرحُ شاعر مُضَر، وصارت بنو نُمير تُعيّر به، وهو قوله المشهور:
فغُضَّ الطرفَ إنك من نُمَيرٍ
فلا كعبًا بلغتَ ولا كِلابا
يا لهذا البيت! ويا لجرير ما أخبثَ شيطانَه! كيف أتى به محكّكًا هكذا!
الشرّ الكامن في هذا البيت أنّه مدّ إليه طَبَقين أحلاهما مُرٌّ مَقِرّ: إما أن تتعالى على أبناء عمومتكم كلب وكعب، وفي ذلك فساد عظيم، فكما قلنا إن الراعي النميري كان شاعر مضر غير منازع، وأن يفخر بقومه على أبناء عمومتهم فهذا سيشعل فتيل فتنةٍ لا يِطفؤها شيء، وجرير لغضبه وحضور الشيطان لم يكن لديه أدنى إشكال في أن يُشعل فتنةً وحربًا بين هذه الأحياء الثلاثة! وإما أن يسكت ويُنهي حياتَه الشعرية بيده، ويغلبه جرير شرّ غِلبة، وهذا ما فعله الشيخُ الحكيم، ومات غمًا بعدها في ذات السنة!
لم يكن جريرٌ ظالمًا ابتداءً، وكان يعذر ويُحذّر، فإذا صالَ لم يُبقِ ولم يذر. كان جالسًا يُملي على راويته وعوعةُ بن سَعيد ولقبه مَرْبع، فمرّت جنازة فسكت جرير، ورفع مربَع نظره إلى جرير ينتظره أن يُكمل، فلم يكمل حتى مضت، فقال: يا مربع؛ شيّبتني هذه الجنائز. فقال مربع: فما لك تُشاتم الناس؟ فقال: يبدَؤونني ثم لا أعفو.
ومن الحكايات غير المشتهرة؛ أن الفرزدق تزوّج النوار ابنةَ عمّه بالحيلة، وهربت منه ولجأت إلى ابن الزبير -رضي الله عنه- وحاولت أن تخلع نفسَها منه فلم تستطع، جلست معه على مضض حتى طلقها وقال بيته المشهور:
ندمت ندامةَ الكسعي لما
غدت مني مطلّقةً نَوار
ومعنى اسم نَوار جميل، ونغمه جميل، وليته ينتشر بيننا؛ النَوار هي النافرة من الريبة.
ولكي ييغيظها تزوج عليها امرأة من بني شيبان نصرانية اسمها حدراء، وأصدقها مئة ناقة! وهذا كثير على نصرانية، وهذا الصداق أكثر مما أعطى النوار! فضاقت النوار بالفرزدق ذرعًا، وقالت له: كيف تصدق نصرانية مِائة ناقة! فهجاها الفرزدق في أبيات ومدح حدراء، فأتت جريرًا، وقالت له: ألا ترى ما يقول الفاسق؟ فقال لها: أنا أكفيكِه. فقال فيه قصيدة ليست من مُخزياته ولكنّه تلاعب فيها بالفرزدق، وهجا حدراء بنت زِيق وأباها، وحذرهم من تزويجهم الفرزدق، ولكن نقضها الفرزدق بسهولة، وقال الفرزدق في موضوع زواجه من أشراف العرب:
ولو تُنكحُ الشمسُ النجومَ بناتِها
إذن لنكحناهنّ قبلَ الكواكبِ!
فقال جرير:
ذكرتَ بنات الشمسِ والشمسُ لم تلدْ
وأَيْهاتَ من حوقِ الحمار الكواكبُ
وهنا ملاحظة؛ جرير هو الذي فتل، والفرزدق نقض، ولكن هذا البيت لجرير هو نقض لبيت الفرزدق، وهذا كثير في النقائض، ويبدو -والله أعلم- أن الشعراء تزيد في قصائدها نقض بعض الأبيات بعد سماع قصيدة الخصم.
وفي هذه المشاجرة كان الفرزدق يقول: إنك تحسدني لأنك لا تستطيع الخطبة إلى بني شيبان، فلن يقبلوا بك. فيقول:
وإني لأخشى إن خطبتَ إليهمُ
عليك الذي لاقى يَسارُ الكواعبِ
يسار هذا كان عبدًا لامرأة اسمها مَنْشَم، ومَنْشَم كانت مشهورةً بجمع العطور من أقطار الأرض وبيعها، وهي المقصودة في قولهم: دُقّ بيننا عطر منشم. لأنهم كانوا يشترون الكافور منها لموتاهم، فصاروا يكنون عن عطر منشم بالشر والحرب التي ستُخلّف قتلى. فراودَها يسار عبدُها عن نفسها، فقالت له: لا بأس، ولكن أريد أن أُشِمّكَ طيبًا وصلني من الجزائر. فأخرجت الطيب وقَرّبته من أنفه، فلما اقترب أخرجت شَفرةً وجدعت أنفه! فيقول الفرزدق: إني أخشى عليك إذا خطبت إلى زِيق الشيبانيّ أن يجدعوا أنفك، لأنك بذلك تتطاول على أسيادك.
ويبدو أن الفرزدق أعجبه البيت، وأن جريرًا غاظه المعنى، فقد قال جرير أبياتًا، فاكتفى الفرزدق ببيت واحد أعاد فيه المعنى فقال:
إن كان أنفُكَ قد أعياكَ محملُهُ
فاركبْ أتانَك ثمّ اخطُبْ إلى زِيقِ
رائع كعادتك
ردحذفلله درك يا خالد
ردحذف"طربت حتى دمعت عيني 😂"
أشعر أن هجاء الفرزدق أكثر متعة و سخرية من هجاء جرير الذي أشعر بصرامة و جدية كبيرة فيه
ردحذفلسان حال جرير يقول:
ردحذفوكنت إذا قوم غزوني غزوتهم
فهل انا في ذا يالهمدان ظالم :)
مقالة جميلة جدًا، أحسنت
ردحذفمع جرير ظالم أو مظلوم 😂😂
ردحذفأتفق (:
حذفاللهم اغفر لخالد
ردحذفجزاك الله خيراً يا خالد و خلد ذكرك الطيب وبقي أثرك ع هذه المقالات
ردحذف