الخميس، 6 نوفمبر 2025

رأي ثالث في قصيدة حسن صميلي

 رأي ثالث في قصيدة حسن صميلي

لستُ أبدي رأيًا في شعرٍ لم يطلبه شاعرُه، فإني أغنى الناس عن قولة: "مَنْ طَلَبَ رأيك؟". ولكنّي وجدتُ الناس ماجت وهاجت في قصيدة نشرَها حسن عبده صميلي، بعدما أثنى عليها عبد الله بن سليم الرشيد، فقلت أنظر فيها من غير مُشاتمة، ومن غير تراشق بين حزبين: حزب الحداثة وحزب التقليديين.

وقبل أن أبدأ أريد التنبيه إلى أمر: بما أني لم أدخل براية حزب التقليديين، هذا يعني أنني لست متحاملًا حزبيًا على الشاعر. والأمر الآخر أن كلّ إنسان يعرض شعرَه على الملأ فهو معرّض للنظر فيه، وكل إنسان يُتوقّع أن يخطئ.

(تنبيه آخر: رأيي لا يهمني شخصيًا ليهمّ غيري، ولكن مع الخيل يا شقرا.)

قال حسن صميلي:

"خطيئتي مثل كوخٍ ضَلَّ في المدنِ"

شبّه خطيئته بالكوخ، ووجه الشبه الضلال، أفهم صورة الكوخ الذي ضلّ في المدن أنها مدينة كثيرة المباني، ثم بين تلك التكدّسات كوخ صغير لا ينتبه إليه أحد، هذا المعنى، غير أن إسناد الضلال إلى الكوخ لا أراه مناسبًا (ومن أنا لكي أرى؟ لا أحد فقط أتكلم) لا أراه مناسبًا لأن المبنى -كوخًا كان أو مبنى حجريًا- ليس له غاية يضل عنها، بل الثابت الموجود بالنسبة للكوخ هو موضعه الذي هو فيه، بعكس من يدخل مكانًا فيضلّ فيه، لأن موضعه ليس ثابتًا يريده بل يرد ثابتًا آخر وضلّ عنه.


‏"تُؤَرْجِحُ اللغةُ العمياءُ

‏حفنتها بين الجياعِ

‏تنادي سَوْأَةَ الوهَن"


اللغة العمياء تؤرجح حفنةً من طعامها أمام أعين الجياع إليها، وتنادي سوأة الوهن ليفوز بها، فهمت الفكرة العامة ولكن كذلك إسناد الأفعال والمضافات هي التي تتوِّهني مرةً أخرى، فقوله أنها لغة عمياء، استجلبها لكي تنادي على سوأة الوهن، فإنها لو كانت مبصرةً لما احتاجت النداء ولذهبت مباشرةً إلى سوأة الوهن، هنا صوّر اللغة صورةً قبيحة تترك من يحتاجها وتُعطي الوهن، وليس الوهن ذاته بل سوأته، المعنى مفهوم ولكن الكلمات تحتاج تحميلَها ما لا تحتمل ليظهر المعنى.


‏"على المشانقِ

‏كان الغيب ينفثنا مغارةً

‏ثم يهذي :

‏كنتُ

‏لم أَكُنِ"


المعنى مفهوم، وهو الشك بالمصير، لا ندري ما سيكون بعد شنقنا، ولكن الإشكال عندي كالعادة ليس فهمَ المُجمل، بل وجه دلالة الألفاظ، أنا أتعمّد إلغاء ألفاظ الشاعر لأفهم، وهذا لا يصحّ من السامع ولا يُقبل، هنا في قوله: ينفثنا الغيب مغارةً. لو قلنا أننا نحن الذين نكون مغارةً بنفثه، أو قلنا أن نفثه هو مغارة في كلا الحالين أحتاج أن أقرأها: ينفثنا فندخل مغارةً، ينفثنا فنسقط في مغارة، ينفثنا فندخل في خيالها في مغارة الشكّ.


‏"وكان ربُّ الخطايا السُّمْرِ

‏يأخذنا لوجهةٍ

‏ليس فيها لثغةُ الوطنِ"


رب الخطايا السمر، صاحب الخطايا المُشكلة، لم يقل السود لأنها ليست خطايا محضة، ولكن هل السمار يتوسط البياض والسواد؟ من رأيي الشخصي أن الألوان لها أبعاد والسمار بالنسبة للبياض لا يتجه إلى السواد فما يتوسط بينهما، ربما يتجه إلى الاحمرار أو الاصفرار.

رب الخطايا السمر يأخذنا لمكان ليس فيه لثغة الوطن، أفهم من هذا البيت أنه يأخذهم لمكان يكون الوطن فيه كاملَ الصحة، لا تعثّر فيها ولا نكد.

ومشكلتي الآن مع هذا البيت أنني لم أستطع ربطه ولا فهم جملته.


‏"أنا وجوديُّ هذي النارِ

‏أصلبها على السقوفِ

‏ولا سقف سوى حَزَني"


إن كان حسن صميلي يعني بالوجوديّ المذهب فالفلسفي فأحتاج معرفة أبعاده قبل الخوض في هذا البيت.


‏"تَخَفَّفَتْ 

‏فِيَّ أسماءُ البلادِ 

‏كما تَخَفَّفَتْ وردةٌ من خيبة الفنَن"


هذا واضح المعنى والمبنى، لا أجد أني أستشكل شيئًا فيه، ويبدو لي مفسرًا للقصيدة.


"‏الشارعُ الآنَ

‏مثقوبٌ بمن وصلوا قبل الجهاتِ ،

‏ومن ناموا بلا سكنِ"


الشارع مثقوب، غير معتاد أن يثقب الشارع، ولكن الخيال يُسعف، فالشارع ثقبه من وصلوا قبل أن تصل الجهات، هنا عثرة لا أستطيع تخيلها وهو وصول اما يوصل إليه أعني الجهات، بعض الصور غير المعهودة يمكن تخيلها بشكل أو بآخر، ولكن حين تخالف تعريف الشيء هنا يتعطّل الخيال، فالوجهة تعريفها أنها الغاية التي يوصَل إليها، فحين نقول: لم تصل الوجهة، هنا يحدث تناقض لا سبيل إلى حلّه.

والشارع مثقوب بمن ناموا بلا سكن، واضح أنهم من لم يصلوا.


الإشكال في القصيدة حقيقةً ليست أن قائلَها ينتمي لتيار حداثة أو ما شاء المقلَدون تسميته، الإشكال في هذه القصيدة وفي كلّ شعر يُقال هو إشكال واضح بيّن، لا يختصّ به تيّار دون آخر، حتى من يدعي أنه متّصل بشعر الجاهلية أو شعر الأمويين، وثار في وجه الشاعر حسن صميلي وثار في وجه الناقد عبد الله الرشيد، يسقط في نفس الحفرة، كل شعراء عصرنا يؤتون من جهلٍ ممتد علينا كلنا بلغة العرب، بل قل بإحساسنا بدلالة ألفاظها على التحقيق، لا نعرف ماهيّة اللغة، وكيف تُقال وكيف تُفهَم، كل الشعراء واقعون تحت هذا الجهل، ولا أبرّئ نفسي إلا أني أعترف بتقصيرها.

الأربعاء، 5 نوفمبر 2025

رسائلي إليها (٦)

 رسائلي إليها (٦) 

٢٣ ديسمبر

عزيزتي،

بَعُدَ عهدي بآخر رسالة، لم تخمد نار الشوق، ولكن أوهىٰ مِعصمي أن يكتب إليكِ علمي أن هذه الرسائل لن تصل، هي رهينة المحبسين.. قلبي ودرج المكتب، لا فرق إن كتبتُها أو كتمتُها.


هذا الفراقُ.. فراق التسعةِ أشهر، كان أولُها تشاغل، وأوسطُها تَصابُرُ، وآخرُها جَزَع. هكذا، وإن امرءًا يبتسم بعد ذلك لجَليد، فابغي ليَ الحُسنىٰ بوَصْلٍ يسقي ذوابلَ نفسي، فنفحةٌ منكِ تُحيي بساتينَ الحياة فيها.


عزيزتي.. في أحلك زوايا غُرفتي ظُلمةً، غصصتُ بذكرىٰ عابرة في حِساب الأيام، راكزةً في نفسي أبدًا، لقد أرِقتُ وما همّي سواك، فسلّمَ اللهُ وجهَكِ الأنور الأزهر، وقلبَكِ الميمون الأطهرَ، أحبّك.. وأحبّ أني أحبك.


أكتبُ إليك والفجرُ مُطِلٌّ بتباشيرِهِ، وعُقَدُ الغمام محلولة عن مَطَرٍ لطيف، كنتِ أولَ خاطر، فجرتْ دعوة باسمك إلى السماء، لتكون على قلبِكَ ألطف من هذا المطر.


قبل أيام كنت أمشي في بستان، وقد ظللتني شَجَراتٌ ألقت عليّ شُعاعَ الشمسِ كليلًا، قِطعًا خافتةً كفتائل قاربت غرقها في شموعها، وهبّ النسيم عليلًا على السنابل، فهزت رؤوسَها شَجىٰ، وعلى الماء فاضطربَ كأنّه مُجهِشٌ يُمانِعُ عَبْرَتَه.. وددتُ حينَها لو كنتِ معي، لأمسك يدَكِ، فأقبّلها، وأفدّيها، ثمّ أضعها على كبدي فيسكن رَجفانُها، وعلى قلبي فيهدأ خفقانُه، وعلى عيني فتبرد، ليتك معي.


أ.س

رأي ثالث في قصيدة حسن صميلي

 رأي ثالث في قصيدة حسن صميلي لستُ أبدي رأيًا في شعرٍ لم يطلبه شاعرُه، فإني أغنى الناس عن قولة: "مَنْ طَلَبَ رأيك؟". ولكنّي وجدتُ ا...