الثلاثاء، 12 أغسطس 2025

حوار مع حزين (قصة)

 حوار مع حزين

بعثَ إلي برسالة أنه مستعدّ لمقابلتي في المقهى، كان عملي بسيطًا أنا باحثٌ في الحُزن، أقابل المحزونين، وأحاورهم، فيُخفّف الحوار من شعورهم، وأستفيد أنا من تحليلي وسماعي للحزن من أعماقه.

دخلت المقهى ومعي ورقة وقلم، أتخفف من الحقائب والمراجع، يكفيني القلم والورقة، كان المقهى دون الصجيج، وفوق الهدوء، وصوت التبخير والطحن ترتفع من حين لآخر، وعبير القهوة يملأ المكان، والناس كلٌّ يعيش في عالمه؛ فهذا رجل على حاسوبه يضارب في الأسهم، وتلكم طالبتان تشتكيان من أستاذهم في الجامعة، ومراهق ينتظر أصحابه ويقضي وقته بتقليب الهاتف، وعامل المقهى يوصل القهوة إلى هذا وتلك، كلّهم تُنيرُهم الشمس المضيئة من الزجاج الأمامي.

جلسنا وتبادلنا التحايا، طلبت قهوةً واكتفى بالماء. تكلمنا عن الطقس قليلًا كعادة افتتاح أي حوار بين اثنين، وذكر لي أنه في هذا الصباح تأمل نفسه أمام المرآة كثيرًا، فانتهزت الفرصة وسألته:

  • قل لي إذن ما الذي شعرتَ به حين وقفتَ أمام المرآة؟
  • وقفتُ أمام المرآة أنظرُ إلى شُحوب وجهي، لم أكن هكذا، كنتُ مثالَ المرحِ، مثالَ الحياة، أجبرُ بحديثي القلوب المكسورة.
  • قلت لي إنك شاعر، وهذا ظاهر.. ما الذي حدث؟
  • كُسِرَ قلبي.. في ليلةٍ لم أستعدّ لها كُسِرَ قلبي، لم أكن أعرف معنى هذه الجملة، ولا معنى الحزن العميق الذي يصل إلى أعمق نقطة في الروح فيغرز فيها خنجرًا، الحزن الذي يُكبّل أطرافك، ويجعلك كأنّك تمشي في الماء، أنا أختنق.. موجٌ يعلوني ويكتُمُ صوتي.

ثم سكت، وتركته قليلًا ليلتقط أنفاسَه، ويشرب من الماء الموضوع أمامَه، ثم قلت له:

  • صف لي هذا الحزن.
  • هو كالكُسوف الذي يحجب الشمس فتُظلم الأرض، ويهلع الناس، لا أدري كيف أصفه، إنه يعقدُ حبلًا حولَ قلبي، يعتصره اعتصارًا، الآفاق كلّها تُختزَل وتصبح في حجم العُملة، الهواء يُصبح مستفزًا، صلابة الحَجَر أشعر أنها تصدم ترقوتي، الورد أراه مشتتًا مقطعًا، القلم نحيل ينزف، الورق مِزَق متلاصقة، الدنيا تنهار!
  • يبدو لي حزنك محيطًا بك، قل لي إذن؛ متى ضحكتَ آخر مرة؟
  • لا أعلم، ولكنّي أشعر أن ضحكًا حدث منذ زمن بعيد، قرن ربما، ضحكت من قلبي في السويعات التي كنت فيها معها، نتبادل الكلام، وأكثر الكلام كان عنها، وهذا مبتغاي من الدنيا، أن أراها في تفاصيل أفكارها. لم أضحك كذلك الضحِكَ قطّ، ولم أحزن بعدها كذلك الحُزن.
  • تعرف حُزنَكَ كما يعرفك، فهل له لونٌ في ذهنك، أعني إذا تذكرت حزنك هل يبرق في ذهنك لون ما؟

فكّر قليلًا، وتمتم لنفسه بشيء لم أسمعه، ربما كان ينطق كلمةَ حُزن ليرى لونَها في ذهنه، ثم قال:

  • ليته كان أسودَ.. حزن أسود، لكن لا؛ هو بلا لون، هو يتمثّل أمامي بأنيابه فينهش بي، ثم يختفي، لا لون له.
  • أهذا الحزن من فقدِها أم من شيء آخر؟
  • الفقد؟! ليس الفقد كلّ سببه، أرأيتَ لو أنك بنيت حياتَكَ وذاتَك وكيانَك على صورة، وحول مِحوَر ملّكتَه تركيبَ نفسك، ثم في دقائق انهار كلّ شيء، هذا فوق الفقد! الفقد أوضح مما أشعر.

شعرت بشيء من النشوة لهذه الفكرة، نعم الحزن لنانهيار الذات لا يضاهيه حزن، وقد لحظ هذه النشوة، فتحشّمت، وسألته بصوت عميق لأخفي فرحتي:

  • حسنًا.. ما أول شيء فقدته بعد تلك الليلة؟
  • فقدت.. فقدت الصوتَ المنساب الذي كان يرويني، الدفء في روحِها وكلامها، الضحكة البريئة، كل ذلك.

أخشى أنه ساءَه فعلي، قلت له بصوت ألطف:

  • أراك اختصرتَ في إجابتك.. حسنًا، هل تخشى أن تنسى ملامحها؟
  • لا أخشى ذلك، فإني لو نسيت الملامح فما أنسى الأثر المنقوش في ثنايا الروح، هذا لا يُنسى ولا يُمحى!
  • وما أثقل كلمة سمعتها منها؟
  • لم تقل كلمةً ثقيلة، كل كلامها كان كريشة ترقص على كفّ النسيم، أو سمكة تسرُب بين المرجان، أو لألاءةَ شمس الصباح بين أوراق الشجر.
  • ما الشيء الذي لم تستطع قوله لها؟
  • قلت قليلًا وسكتّ كثيرًا، كنت أستمع لها أكثر مما أتكلم، كلام كثير جدًا لم أقله، لم أقلْ إلا القليل، ما زلت أرى الشيء فأقول ليتني أخبرتها عن كذا وعن كذا وعن كذا، كيف يقسو قلبُها كل هذه القسوة؟

لا أحب أن يطول الحديث عن الأشخاص لأنني بذلك أفتح عليهم باب الذكريات وينسون الحزن، فقلت مغيرًا مسار الكلام:

  • فأين تضع قلبك الآن؟
  • في مخلب نسر يحمله إلى أعلى مكان، تحرحه مخالب النسر، ويختقه الهواء في المكان العالي.
  • أخبرني؛ لو كان حزنك بابًا، ما الذي خلفه؟
  • حين تمسك قبضة الباب ستشعر بحيادية، ليست باردةً ولا حارّة، ثم تتسمّع فما تسمع شيئًا، ثم تفتح الباب فتخرج إلى أرض يباب، خالية، لونها أبيض، وسماؤها سوداء، لا شيء فيها، ويضيع فيها كلّ شيء.

لم يطل الحوار أكثر من ذلك، إذ بدأ صوتُه يختلج، وقام وتركني مع ورقتي وقلمي.

هناك 10 تعليقات:

  1. كان الله في عونه و رزقه شمساً منيرة .. المحب : ابو بسبوسه

    ردحذف
  2. تعليقُ المرءِ قلبَهُ بأحدهِم أشبهُ بتسلِيمِهِ مفاتِيحَ أبوابِ أحزَانِه؛ حتى متى كانَ الحبُّ قد أعمَى بصِيرتهُ؛ فُتِحَ بابٌ على حينِ غفلةٍ منهُ فأُلقِيَ فِيه، فلا يزالُ يهوِي إلى المجهُولِ مالَم يستَعِد سيطَرَتَهُ، ويَنتَشلُهُ اللهُ من قاعِ حُزنِهِ إلى سماءِ فرحِهِ واطمِئنانِه!
    - J

    ردحذف
    الردود
    1. صدقت، ويكون الأمر بيده في إحزانك وإسهعادك، أما تعليق القلب بالله فهو القوة والسعادة الأبدية.

      حذف
  3. ((معرفة أني لن أستطيع الحصول عليك مؤلمة، لكن تجربة الوقوع في حبك كانت تستحق كل ألم)).

    ردحذف
  4. أختلط علي نص الكاتب ونص الحزين..لو كان هناك لفظة قال لأصبح أفضل..ليتضح المضمون للقارئ..
    -لا أفهم ما هدف الكاتب عندما غير مضمون القصة من الذكريات إلى الحزن..ليعيد الحزن الشديد للحزين..فماهي الغاية؟

    ردحذف
    الردود
    1. الكاتب هو الذي يسأل، والخزين يجيب بإجابات شاعرية، وجعلت بين الحوار جُزر للراحة.
      أما سبب قطعه الذكريات لأن الكاتب باحث في الحزن كما ذكرت في بداية القصة، فهو عملي يريد الحديث عن الحزن لا قصص الذكريات.

      حذف
  5. الحزن يُقلقُ والتجمل إلخ... انا اسف انني قرأتها عصر الخميس، بس اظن أنها ستؤثر فيني بعد منتصف الليل... حينما تخدر الشاهي (السيلاني) وتجلس مع نفسك تلك الجلسة، وينتابك نفس الشعور حينما تكون مع رفاقك طول اليوم ويخبطك إكتئاب حاد اول ماتنزلهم بيوتهم (يختفي الدوبامين)... ذاك الشعور، حين يأتي سأتذكر الحزين هذا وأعذر قلة حيلته في الكلام والتعبير.

    أقولها يا أستاذي الكريم، وانا اعلم انني مجحفٌ بحق الكاتب والحزين، ان الحزن رفاهية وحاجة... يحددها طبيعة تمدن الإنسان ورقّته، فإن كان بدويا (نظر إلى طعامه وديونه وبيته وبني عمه ويكون في طور حياة النجاة) وإن كان غير ذلك من سواد الناس وعوامهم، فيفقد حقه المتميز اساسا في ان يحزن، لان لا شيء يتغير من اجل حزنه.

    اما رفاهية الحزن، لكم انتم معشر الشعراء الخائفين من التجربة الجالسين في الصفوف الاخيرة، والفاقدين لما يوجب الحزن، هذا اذا لم يكن مستهجنا عندكم الحزن نفسه... فقدتم مركزكم و دوركم في مجتمعاتكم... حتى الحزن، بتم تسرقونه من غيركم...

    واما اذا جلست معي وشربت السيلاني... فأقول ( أرق على أرق ومثلي يأرق) فما اكاد اصل إلى (ولقد بكيت على الشباب....) حتى يختلج صوتانا ونشرق بالشاي ويتعرقل كل منا عند الباب خارجا ليبكي على شبابه...

    أبو الأغرّ

    ردحذف
    الردود
    1. عمّار آل مِرْزا16 أغسطس 2025 في 5:45 م

      سلِمت يُمناك.

      حذف
  6. تعرف نفسك انك قارئ وأديب ايش الفرق بينهم؟

    ردحذف

الحَلُّ لكل شيء

 الحلُّ لكلّ شيء حين يجلس وحدَه رجلٌ كثير التفكير والقلق تصل به أفكارُه إلى مُعضِلاتٍ لا حلّ لها، ولا يرتاح باله حتى يبلغ بعَقْدِه الأفكارَ ...