رسائلي إليها
(١)
ها هي الحقيبة أمامي، الحقيبة التي أعطاني إياها رجلٌ كنت أستلطفُه في المقهى، عرفنا بعضَنا في هذه السويعات التي تضمّنا فيها جدران المقهى، كلّ منهمك في عمله وقراءته، ولا تواصل بيننا إلا التحايا.
في يوم الخميس الماضي دخلَ واجمًا، ولم يُسلّم، جلس ساعة يحدّق في حقيبة أمامه، ثم قام وجلسَ إليّ بعد أن ألقى التحية، ثم قال:
- إني أعرفُك منذ زمن، فلا بأس أن أودعك هذه الحقيبة.
سألته ولا بدّ عنها، فأخبرني بأسلوب الأديب:
- هذه بقايا، بقايا حبٍّ انتظرتُه سنوات، شيّدتْهُ الآمال، وما كنت أدري أن للآمال أياديَ من هواء، فلمّا كادَ أن يستقلّ انهار، انهار كلّ شيء. كنتُ لتعلّقي بهذا الحبّ أني كتبت رسائل وطويتُها في مكان آمن، أرجو أن تصل يومًا ما إلى من كُتبت إليها، فهاهي أودعها هذه الحقيبةَ بعد أن علمت أنها لن تصل أبدًا.
- لماذا لم تمزقها أو تحرقها؟
- وهنت يداي وخارت قوايَ دون ذلك، فرأيت أنني لو أعطيها رجلًا آخر، لا أعرفه ولا يعرفني، فيحفظها أو يمزقها أو يفعل بها ما يشاء.
هنا سكتّ فلم أبدِ أي ملحوظة، فإن الوجه الميّت الذي أراه أمامي لم يكن ليُنصت.
***
هكذا جلست، والحقيبة أمامي، تركها صاحبها كأنه بذلك يترك قطعة من نفسه، لعلّه أراد قطع علائق الحب القديم، حقيبة مما يسمى: حقيبة ساعي البريد، مصنوعة من جلد صناعيّ مقشّر في مواضع مختلفة، غير أنها تبدو عليها الجِدّة لمن لا يدقق، لها حزام بلونين بنيّ غامق وفاتح، يبدو لي أنها تكفي لكتابين بقطع متوسط تُغلق عليهما السحّاب بارتياح.
كانت الرسائل مطويةً ومعقودة بخيط، ثم طواها داخل ورقة وكتب عليها عنوانًا (رسائلي إليها). فضضتُ الخاتم، وحللت عقدة الخيط، لا أخفيكم أنني كنت أحسب هذه الرسائل كلامًا من كلام الحبّ المبتذل، فوجدتُها رسائل يقارن حسنُها رسائل الصابئ والرضي، إلا أنه أخلصَها في الحبّ إخلاصًا فقال في رسالته الأولى بخطّ واثق جميل، جمله متزنة، لعلّه نقّحها كثيرًا:
"عزيزتي،
إن الكتابة التي تدفعني للسلام؛ هي عينُها التي تُشعل الحربَ بعده، وذلك أني كلّما رأيتُ انحلالَ معقودِ مشاعري في هذه الأحرف المتراصّة؛ تذكرتُ ضعفي، وخوَرَ عزمي في أن أقفَ صلبَ العود، حتى أبدو كالورقة في مهبّ الرياح؛ ساعةَ أعود لهذه الأوراق الوِضاح، فما أرى انتصابَ ألِفاتِها، واستدارةَ هاءاتِها؛ إلا خلتُها سوادَ جَيْشٍ ذا أتراسٍ وأرماح، يتحينُ ثغرة من عينيّ ليصيبَ سوادَ قلبي، ولن يُتعبَ نفسَه في ظلمتِه؛ فإن شُعَل الشوق لتدُلُّهُ على مقاتلي بغيرِ عناء.
إن الأمر الذي أصارع فيه الوجودَ؛ ليس هيّنًا كما تظنين، والعجز الذي يرفع نفسي ويخفضها؛ أقوى من أن أدفعَه بقلبي الضعيف. وما هذا الليل العابس بأبغض إلى نفسي من الصبح الخائب، وما هذه الوحدة بأسوأ من اجتماع قوم لستِ فيهم. حَسبُك بفتىٰ ينام على غمّ، ويصحو على همّ، وهو بين ذلك شاردٌ الذهن، حاضر الابتسامة، زائفُها، وحَسبُكِ بروحٍ تضطربُ وتهتزّ، ما أقلقها إلا الشوق إليك، ليس شوقًا يُحيي بماء الأمل، بل شوق يُميتُ بعَطَش اليأس. ثم اعلمي بعد ذلك؛ أن كلماتي التي تُجاري ما بقلبي لن تبلغ حقيقته.
لا أريد أن أُنكِرَ منكِ ما كنتُ أحبه فيك من عدم الاكتراث، لا تضعفي فتنجرفي خلفَ ما تظنينه رتبةً أعلىٰ، أنت عالية بنفسك؛ وهذا يكفيني، وإن الزينةَ على الحقيقة تتزيّنُ بصاحبتها لا تُزيّنها، وأنتِ في عيني -دون الناس- يُعجبني كل ما فيك، ولكن لا تفعلي ما لستِ مقتنعةً به. دُمتِ بهاءً للحياة.
المخلص لك للأبد
أ. س."
***
لا أدري ما الذي دفعه إلى هذه الشكوى الفلسفية، تكلّم حبيبتك بالفلسفة؟ عمومًا هي لم تقرأ هذه الرسالة، وإلا لما انتهت في يدي أنشرها لكم.
تكلم عن كتابته وما يعانيه فيها لكي يصل في آخر كلمتين أن يجعل لشوقه شُعَلًا تهتدي إليها الكتابة، وختم رسالته بعتاب لطيف، يبدو لي رجلًا لطيفًا، بالمناسبة لا أعرف اسمه، فقد فجأني في المقهى وانشغلت عن سؤاله..
حرف الألف لعله أحمد؟ أو أسامة؟ والسين؟ سالم سليم سلامة؟ لا أعلم ولن أفتي.
يناسبه كعاشق اسم أمجد سعيد، احب رسائل العشاق ويزيدها جمالا حين تُكتب ولاتصل، معنونة ب: رسائل لا تصل أما تلك التي تصل ويُرد عليها تفقد بريقها
ردحذفهل الحدث كان فعلًا هكذا؟
ردحذفأم أنك صغته بريشتك وأضفت عليه كثيرًا مما لم يحدث، فجعلته هكذا محاطًا بهالة سحريّة جميلة..
ثم كيف لم يدفعك الفضول أن تعرف القصة كاملة وأن تعرف اسم جدِّه السابع وكيف تعرّف عليها ومتى ولماذا لم تصلها الرسائل ..
أعتقد أنه لو حدث هذا الموقف معي سأتفوق على كونن = أُفعِّلُ خاصيّة التحقيق مغلفةً بكثير من العطف واللُطف..
لأن حدثًا نادرًا كهذا نسبة احتماليّةُ تكراره = ١٪
لأن الحب العذري هذا يندرُ فيكم معشرَ الرجال، فالرجل العربي إن أحبَّ إما أن:
١-يتغوَّل ويتوحش ويتلاعب ويحيك المكائد لفريسته.
٢-أن يعود إلى إعدادات المصنع بأن يكون = مخلوق صحراوي يُنكر مشاعره ولا يكترث لها أو أن يخنقها حتى تلفظَ أنفاسها الأخيرة وتودعه.
كتابةُ الرسائلِ الَّتِي تعلمُ يقينًا أنَّهَا لنْ تصل، يُشبِهُ السَّيرَ فِي طريقٍ تعلمُ مسبقًا ألَّا نهايةَ له... تفعلُ ذلكَ إسكاتًا لحديثِ قلبكَ الَّذِي لن يهدَأ حتَّى تبوحَ بهِ للورَق!
ردحذف- J
ربما وصلتْ يومًا ما، من يدري!
ردحذف