تحت ظلال الصنوبر
تأملات في تركيا
أمشي في إحدى بحيرات تركيا وارفة الشجر، اسم هذه البحيرة قَوْلجَكْ gülcük، طولُ البحيرة خمسَ مِئة متر، وعرضُها مئة وثلاثون، لطيفةٌ ملمومة، تحضنها الجبال، وتحفّها أشجار البرقوق والصنوبر، وفي ضفّةٍ بيتٌ ريفيّ كبير ذو سقفٍ مائل، عُنّابيّ السقف، أبيض الحُروف.
في مواضع من البحيرة تجتمع الزنابق اجتماع الجواري، زنابق صفراء ووردية، لم أرَ كجمالِها زهرةً وهي في الماء متّكئةً على ورقها المستدير، المكان جميل والناس الذين يمشون جميلون، ربما أكون القذاة في هذا الجمال كله، وهل كمُلَ جمالٌ قطّ؟ حتى البحر الكامل لم يكمل جمالُه دع ذلك عنك.
دُرت حولَ البحيرة ساهمَ الفكر، أتمثّل قولَ المتنبي:
مغاني الشعبِ طيبًا في المغاني
كمنزلةٍ الربيعِ من الزمانِ
ولكنّ الفتى العربيّ فيها
غريبُ الوجه واليدِ واللسانِ
وحين تتخلل الشمس بين شجر الصنوبر، أذكر قول المتنبي كذلك:
وألقى الشرقُ منها في ثيابي
دنانيرًا تفرّ من البنانِ
كنت أسير ومعي كامرتي اشتريتها منذ زمن، نوعُها Fujifilm ألتقط الجمالَ هنا وهناك، وإن كانت نفسُ الشاعرِ تلتقط أسرع وأعمق مما تلتقط الكوامر، ولست بالمصور المحترف، وإنما أجرب وأزيد مقياس كذا وأقلل كذا، حتى تظهر صورة جميلة فأعتمدها، وهذه التجربة في ذاتها ممتعة، وهذه عادتي في تعلم شيءٍ جديد، دُلّني على الطريق واتركني أجرّب، ولعل هذه الطريقة من أبواب الأصالة.
وكان مما أريدُ تجربته أن تكون الشمسُ على شيء ما، فتُظهر ألوانَه، ومن حوله ظلام وظلال، فتُبرزه، وهذا أسلوب باروكي في الرسم، وتقنية تُسمى clair-obscur، ومعناها النور والظل، نورٌ يوضّح ما هو عليه، وظلال قاتمة على غيره، هذا التباين الحادّ يفجّر مشاعر وإحساسات جميلة، أقدم وأتقن من أعرفه بدأ هذا الأسلوب هو ليوناردو دا فينشي، ولو شئتم فانظروا لوحة عذراء الصخور نُسخة لندن. ومن المشاهير في الأسلوب الباروكي كارافاجيو الإيطالي، ورامبرانت الهولندي، ولعلي أشير إلى لوحة لكارافاجيو تصوّر نرجس، الشاب الذي أطال النظر في البركة وعشق نفسه، حتى مات، ونبتت مكانه وردة سُمّيت النرجس، واشتقّ منه اضطراب الشخصية النرجسية.
هذا أردتُهُ في التصوير، وفي صورة تعبثت فيها بالتعرّض للضوء، وصورت يدي مع حشائش من خلفها، فجاءت الصورة كما أحبّ! وكدت أصرخ فرحًا، وصار لصوري معنى جميلٌ يشبهني.
وفي بحيرة توبوك وهي بحيرة مرتفعة تمتلئ بمنابع الماء الجبلية، بحيرة تأسر النفس، وفيها منتجع خاص بنادي فَنَرْبَخْشَهْ؛ كنَا جالسين فأقبل علينا رجل تُركيّ، وجلس، وهذه عادة وجدتها عندهم، عند كبار السن منهم، يمرّ الرجل على جيرانه من المتنزّهين، فيأخذ فنجالَ قهوة ويتحدث ثم يغادر، فجلس هذا الشيخ، وأخبرنا بلغة حاول أن يجعلها عربيةً ما استطاع بأنه من مدينة في جنوب تركيا قرب سوريا، وبذلك يعرف اللغة العربية، أحسب اسم مدينته أُورْفَهْ، ثم أقبل صِهره وكان يُحسن الانجليزية فسلس الكلام بيننا وبينه، كان حوارًا عاديًا، ولكنْ لَحَظتُ ملوحظتين، أن الشيخ الكبير يذكر كثيرًا السعودية، لأنه زار مكة والمدينة قبل سنوات، فحين نتكلم عن العملات يسألنا عن الريال، وحين نتكلم عن القهوة يذكر إفطار الصائم، ورأيتُ الشوق يلوح بين عينيه.
وخالطَ نفسي بشاشةً؛ إقبال ابنٍ صغير، فكلّمه أبوه بالتركية، ثم أشار إليه ليجلس وقال: مسلمين مسلمين. نعم لا يجمعنا نسب ولا لغة ولا دولة ولا شيء مما يأمن به المرء جانب من يخالط إلا خيرًا من ذلك كله؛ دين الإسلام، ويعجبني أحد الإخوة كان يُنشد بيت أبي تمام هكذا:
إن يختلف نسبٌ يؤلف بيننا
دِينٌ أقمناهُ مقامَ الوالدِ
تفكّرتُ في أمر حين كنت أتجول في إحدى البازارات الشعبية؛ حين رأيت الفلاحين شيوخًا وشبانًا يبيعون محاصيل مزارعهم، رأيت طبقةً لست معتادًا عليها، فليس في الكويت هذه الطبقة، طبقةٌ تقضي يومَها بعمليةٍ وسعي، طبقة لا تعاني من الفراغ والملل، الزحام عندهم ليس مشكلةً، والتواصل عفوٌ لا تكلّف فيه، والمناداة على البضاعة بصوت عالٍ أمرٌ لا حرج فيه، ينادي الشابّ على خياره وطَماطِه بتتابع من غير تركيز في كلّ مرة يعلي صوته فيها، يعزل نفسه عن عَزْمِ المناداة في كلّ مرة.
ومما تأملتُه وكنّا في ميناء غَلَطَهْ؛ أني رأيتُ أصناف الناس، من كلّ عِرق، وفيهم الملتزم وغير الملتزم، الملتحي وغير الملتحي، والمحجبة وغير المحجبة، وصاحب السمت وغير صاحب السمت، والمحتشمة وغير المحتشمة؛ فأدركتني فكرة أن هؤلاء كلٌّ وَحدَه مُكلّف بما كلّف الله به العباد، وكلهم مسلمون، وكلهم أمة محمد ﷺ، لا يحسبن أحد أن وصف الأمة خاصٌّ بمن يلازم المسجد، أمة محمد ﷺ العظيمة فيها الظالم لنفسه، والمقتصد، والسابق بالخيرات، هذه أمة محمد ﷺ التي يشفع لها يوم القيامة ويقول: ربِّ أمتي أمتي. وأذكر سمعت قصةً يرويها الشيخ سعيد الكملي -حفظه الله ووفقه- عن بعض الشيوخ في المغرب أنه كان شديدًا جدًا في خُطبِه ومواعظه على المسرفين، فحضر أحد شيوخِه خُطبةً له، فلما انتهت الصلاة، وانصرف الناس، دعاه وركبا معًا إلى مكان يجتمع فيه الناس من العصر إلى الليل، وأكثرهم الغافلون المنصرفون عن العبادات [قلت: وكأني بهذا المكان مزدحمًا ضيّق السبيل، وعلى جوانبه مقاهٍ يجلسون فيها ويدخنون ويتابعون المباريات، ويتحدثون ويصخبون.] فقال الشيخ: أترى هذه الناس؟ هذه أمة رسول الله ﷺ فارفق بهم. ثم علّق سعيد الكملي: ليست الأمة محصورةً في هؤلاء الذين تراهم في المسجد ويصومون ويقومون الليل ويتصدقون، هؤلاء بعض أمة النبي ﷺ وهؤلاء أيضًا أمته [يعني المسرفين الغافلين] ثم عاد للتعليق على قوله تعالى ﴿قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله﴾ قال: هذه الياء في عبادي تُكتب بماء العين!
ماشاء الله ...بارك الله فيك
ردحذفجميل
ردحذفجميل شيخ خالد وفقكم الله لكل خير 🌹💚
ردحذف