الثلاثاء، 9 سبتمبر 2025

خير الحديث ما كان لحنا

خير الحديث ما كان لحنا

سآخذ بيدك عزيزي القارئ إلى أرض مختلفة، يجلس فيها أهل اللغة يتحدثون عن لفظة واحدة، لفظة قالها شاعرٌ فصيح، اسمه مالك بن أسماء بن خارجة، واسم «أسماء» كانت العرب تُسميه للأنثى والذكر، ثم جُعل بعد ذلك للإناث فقط.

نجد أولًا مالكًا ينطقُ بهذين البيتين الرقيقَين:

وحديثٍ ألذُّهُ .. هو مما

ينعتُ الناعتون يوزَنُ وَزْنا

منطقٌ صائبٌ وتلحَنُ أحيانًا

وخيرُ الحديثِ ما كان لَحْنا

قال البيتين، وتبسّم، ثم ذهب. بعد سنوات في مجلس يجمع زوجَين ليسا كطيور على غصن، ولا كوردتين في بستان، بل زوجين يبغضان بعضهما أيّما بغض، لا يطيق أحدهما الآخر، الكره يملأ البيت، الزوجة العزيزة هند بنت أسماء أخت مالك، وزوجها العزيز الحجاج بن يوسف، مجلس بين زوجَين يتحدثان ويتصيّدان على بعضها بعضًا.

تكلمت هند فلحنت في الكلام، أي أخطأت في الإعراب، فاقتنص ذلك الحجاج وعاب عليها وشنّع، كيف امرأة عربية من فزارة تلحن في الإعراب، يا للهول! سقطت السماء علينا ولا بد! فقالت هند: هذا مَليح في النساء، أما سمعتَ قولَ أخي؟ "وتلحنُ أحيانًا وخيرُ الحديث ما كان لحْنا". فقال الحجاج وكان يعرف أخاها جيدًا، بل ولاه أمورًا كثيرة وكان يقدّره: إن أخاك أراد أن المرأة فطنة، فهي تلحن بالكلام إلى غير المعنى في الظاهر لتستر معناه، وتوري عنه وتفهمه من أرادت بالتعريض، كما قَالَ اللَّه تعالى: ﴿وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ﴾، ولم ترد الخطأ من الكلام، والخطأ لا يستحسن من أحد! لا أدري ماذا فعلت هند بعد هذا النقاش، ولم تكن نهايتهما سعيدة، فقد أرغمته في النهاية على تطليقها، وقالت في الحجاج:

وما هند إلا مهرة عربيةٌ

سليلةُ أفراسٍ تجلّلها بغلُ

فإن نُتِجَت مُهرًا كريمًا فبالحرى

وإن يكُ إقرافٌ فما أنجبَ الفحلُ

أي إذا كان ولدُها حصانًا نجيبًا فهذا منها، وإذا ولدت مقرفًا ليس أصيلًا (المقرف الذي أمه عربية وأبوه ليس كذلك) فهذا بسبب زوجها. فحين سمعها أرسلَ إليها ابنَ القِرّيّة ومعه متعتها مئة ألف درهم، وقال له: طلّقها بكلمتين ولا تزد! فدخل عليها ابن القرية فقال: كُنتِ فبِنْتِ. فقالت هند وقد فرحت أشد الفرح: يا ابن القريّة؛ ما سُررت إذ كان، ولا جزعتُ إذ بان، وهذا المال بشارةٌ لك لما جئتنا به. فاغتاظ من قولها الحجاج غيظًا شديدًا.

نعود للفظة (اللحن) وعندنا فريقين: فريق هند وفريق الحجاج، فسّرها الجاحظ كما فسرتها هند، أنه الخطأ، وأنه يُستملح أن تتكلم الجاريةُ بكلام فيه أخطاء، وألا تُقيم الفصاحة، كما استملح اللثغة في الجواري أيضًا، وعدّ ذلك من الغنج وذكرَ ذلك في كتابه البيان والتبين.

وفي يومٍ من الأيام اجتمع الجاحظ ويحيى بن علي بن المنجّم، فقال يحيى: إني قرأت في فصل من كتابك المسمى كتاب البيان والتبيين: إن مما يستحسن من النساء اللحن في الكلام، واستشهدت ببيتي مالك بْن أسماء. قال الجاحظ: وهو كذلك. ثم أخبر يحيى الجاحظَ بخبر هند والحجاج، فانصدمَ الجاحظ، ووجم وسكت يفكر، ثم رفع رأسه وقال: لو سقط إلي (لو وصلني) هذا الخبر لما قلت ما تقدم. فقال يحيى: فأصلحه! قال الجاحظ: أفعل، ولكن كيف بما سارت به الركبان؟

واللّحَن بمعنى الفطنة والكلام بالإشارة قال به العلماء، فقد رواه أبو علي القالي بإسناده عن ابن الأعرابي، ورواه بإسناده عن عيسى بن عمر، في خبر عن معاوية رضي الله عنه أنه سأل عن زياد فقال: كيف هو فيكم؟ قالوا: ظريفٌ على أنه يلحن. قال: ذلك أظرف له. ذهب رضي الله عنه إلى معنى الفطنة، وهم كانوا يقصدون أنه يخطي في كلامه.

وقال الليث: تأويلُه وخير الحديث من مثل هذه الجارية ما كان يعرفه كلّ أحد، إنما يُعرَف أمرها في أنحاء قولها.

أزيدكم متعةً إن كنتم مستمتعين؟ سأفتح لسان العرب وأقرأ معكم وأعلق:

قال: "اللحْن، من الأصواتِ المصوغة الموضوعة، وجمعه ألحان ولُحون، ولحّن في قراءته إذا غرّد وطرّب فيها بألحان … وهو ألحنُ الناسِ إذا كان أحسنهم قراءةً أو غناءً." بدأ ابن منظور حديثه عن اللحن من الأساس، وهو تعلقه بالصوت، ثم ذكر أنه من الغناء كما نسميه. ثم قال: "واللُّحَنة: الذي يُلحِّنُ الناس" أي يخطّئهم، وما أكثرهم، وما أبرّئ نفسي "واللُّحْنة: الذي يُلحَّن" وهم الآخَرون الذين نخنقهم بالتصحيح والتخطئة.

قال: "وقول الطرمّاح:

وأدّت إليّ القولَ عنهنّ زَوْلةٌ

تُلاحِنُ أو ترنو لقول المُلاحِنِ

أي تَكلَّمُ بمعنى كلامٍ لا يُفطن له، ويخفى على الناس غيري." ثم قال: "وقال القتّال الكلابيّ:

ولقد لحنتُ لكمْ لكيما تفهَموا

ولحنتُ لحْنًا ليس بالمُرتابِ" ثم قال: " ومنه قيلَ رجلٌ لحِن إذا كان فطنًا؛ وقال لبيد:

متعوّذٌ لحِنٌ يعيدُ بكفِّهِ

قَلَمًا على عُسُبٍ ذبُلنَ وبانِ"

وهذه موافقة صريحة من السادة الشعراء الذين شرّفونا في المقالة؛ الطرماح والقتال الكلابي ولبيد، ينضمون إلى فريق الحجاج.

وآخرًا وليس أخيرًا: "قال عثمان بن جنّي: منطقٌ صائبٌ أي تارةً تورد القولَ صائبًا مُسدّدًا، وأخرى تتحرّف فيه، وتلحَنُ أي تعدِلَه عن الجهة الواضحة متعمّدةً بذلك تَلَعُّبًا بالقول." إلى فريق الحجّاج. وقال ابن منظور: "وقيل معنى قوله وتلحنُ أحيانًا أنها تخطئ في الإعراب، وذلك مما يُستملح من الجواري، ذلك إذا كان خفيفًا، ويُستثقل منهنّ حاقُّ الإعراب."

وهذه الصيغة أعني (قيل) صيغة تَشي بوهن الرأي، فأكثر العلماء على الشرح الأول، شرح الحجاج.

ثم لخّص ابن منظور الباب، ووضع المعاني كلها أمامك، يقول: "للحنِ ستة معانٍ: الخطأ في الإعراب، واللغة، والغناء، والفِطنة، والتعريض، والمعنى." الغناء شواهدُ جميلة، قال يزيد بن النعمان:

وهاتفَينِ بشجوٍ بعدما سَجَعتْ

وُرق الحَمام بترجيعٍ وإرنانِ

باتا على غُصُنِ بانٍ في ذُرى فَنَنٍ

يُردِّدانِ لُحونًا ذاتَ ألوانِ

وقال: "يقال فلانٌ لا يعرف لحنَ هذا الشعر، أي لا يعرفُ كيف يغنّيه." ولا أدري هل يقصد بذلك غناء الوَزن أم الغناء عامةً.

فالفريقان:

فريق الحجاج: معاوية رضي الله عنه، وعيسى بن عمر، والأصمعي، وابن المنجّم، والليث، والطرماح، والقتال الكلابيّ، ولبيد بن ربيعة، وابن جنّيْ.

فريق هند: الجاحظ.

ويبدو أن هند ذهبت مع فريق الحجاج ولكن لا تريد الاعتراف بذلك.

خير الحديث ما كان لحنا

خير الحديث ما كان لحنا سآخذ بيدك عزيزي القارئ إلى أرض مختلفة، يجلس فيها أهل اللغة يتحدثون عن لفظة واحدة، لفظة قالها شاعرٌ فصيح، اسمه مالك بن...