الثلاثاء، 23 سبتمبر 2025

تِتْرِس Tetris

تِتْرِس Tetris

لو سئلتُ سؤالًا غير السؤال المعتاد: "من أفضل شاعر عندك؟" وقيل لي: "ما أفضل لعبة فيديو عندك؟" لكانت إجابتي أكثر طرافة: Tetris.

لا يمكن أن تجد إنسانًا لم يلعب تيترس، هذه اللعبة موجودة على كل جهاز يعمل بالبرامج؛ الحواسيب وأجهزة ألعاب الفيديو، والهواتف، وشاشات التلفاز، وتستطيع وضعها حتى في الميكرويف!

قصة تطوير اللعبة بدأت حين كان مهندس برمجة يريدُ اختبار شيء في حاسوبه، حدث ذلك عام ١٩٨٥م في الاتحاد السوفييتي، والمهندس هو ألكسي باجيتنوف.

جلس ألكسي أمام حاسوبه (إلكترونيكا ٦٠) وحاول اختبار شيء فيه، وكان قبلها اشترى لعبة بينتومينو، وهي لعبة فيها قطع ملونة، ترتبها في محيط معين، على شكل مطلوب منك. فقال: لم لا أطور لعبة تختبر الحاسوب بفكرة أبسّطُها من البينتومينو. فقلل أشكالها من ١٨ شكلًا إلى سبعة، وكل شكل عبارة عن ٤ مربعات متلصقة، مقلّبة بكل شكل ممكن، ولأن مادّتها من أربع مربعات صار اسم اللعبة «تيترا» وهي كلمة يونيانية تعني أربعة، ورياضة: التنس! ما علاقتها بالتنس؟ لأن باجيتنوف كان يحب هذه الرياضة، فصار اسم اللعبة: تيترس Tetris.

اللعبة فيها سبعة أشكال سأصفها لك باعتبار أنك لا تعرفها، وأنك تقرأ المقالة في جزيرة معزولة في المحيط الهادي ولا تستطيع البحث عن صورة لها:

الشكل الأول: أربعة مربعات متراكبة، فتنشئ عصًا. ولونه سماويّ.

الشكل الثاني: تأخذ مربعًا وتجعله يمين المربع الثاني، فيكون شبه منجَل. ولونه أزرق.

الشكل الثالث: كالثاني ولكنّه إلى اليسار. ولونه برتقالي.

الشكل الرابع: مربعات منضمّة، فتشكّل مربعًا متوازيًا. ولونه أصفر.

الشكل الخامس: تقسم الشكل الأول في المنتصف، فيتحصّل عندك مربعين مربعين، فتلصقهما بمقدار مربع واحد يمينًا، شبه شكل برق أو حرف z. ولونه أخضر.

الشكل السادس: عكس الخامس. ولونه أحمر.

الشكل السابع: وهو أيقونة اللعبة، والشكل الذي يحل أزمات الترتيب، ثلاث مربعات، يعلو مربعها الأوسط مربعٌ. ولونه بنفسجي.

هذه الأشكال السبعة تَساقطُ متواترةً بعشوائية في مستطيل وعلى اللاعب أن يرتّبها، وينشئ من مربعاتها خطوطًا أفقية، كلّ خطّ يُكسبك نقاطًا، ولديك خيارين: تدويرها، وحفظها.

التدوير: يحصُل لك به أواع تساعدك على ترتيب الأشكال.

والحفظ: يجعلك تحتفظ بالمهم، أو تستبدل عوضَها شكلًا جديدًا، ثم تعود للذي حفظته في وقت آخر، والحفظ تستعمله مرة واحد عندما يسقط شكل، مثلًا؛ سقط الشكل الاول، حفظته، سقط بعده الرابع، لا تستطيع حفظه الان، يجب أن تضعه، ثم سقط الشكل الثاني، الان تستطيع استبداله بالمحفوظ، وتستطيع لعبه، فكتى احتجت للمحفوظ تلعبه، وهكذا.

تحصيل النقاط كما قلنا بترتيب الأشكال بحيث يكون خطٌّ أفق، فإذا استطعت تكوين خطّين بضربة واحدة فجائزتك أكبر، وثلاث خطوط أكبر، والجائزة الكبرى تكون بأربعة خطوط ضربةً واحدة، وهذه يسمونها «تيترس»، ولا تكون إلا بأن ترتب الأشكال وتترك مقدار مربّع فراغًا، وتبني الخط الثاني وتترك له نفس الفراغ، والثالث والرابع، فبذلك يصلح أن تدخل فيه العصا فتكون أربعة خطوط دفعةً واحدة.

وكان باجيتنوف يشعر بشعور مريح عند لعب اللعبة التي أنشأها، وبالأخص حين يصيب التيترس، وهو شعور رائع جدًا فعلًا!

اللعبة ثاني أكبر الألعاب مبيعًا في التاريخ، وليس فوقها إلا ماريو بسلاسله الكثيرة، أما تيترس فلا تصلح بغير هذه القوانين وهذه الأعداد من الأشكال والمربعات، وهي تتكرر منذ أربعين عامًا، مع ذلك هي ثاني أعلى لعبة مبيعًا.

***

أدمنتُها فترةً من عمري، وكنت أبدأ بها يومي، هي كأنها تمارين استطالة للمخ، تنشّطه، وتطوّر كفاءته في اتخاذ القرار السريع المناسب، وتطور تخيله لمآل الاختيار، وتطوّر حس الترتيب عند المرء.

وهذه الأمور العامة تنعكس على الحياة، فمثلًا لو أدمنت اللعبة ثم كُلفت بترتيب مائدة ستجد نفسك سريع الترتيب مع توازن ودقة في توزيع الأطباق، هذا تأثير مباشر.

كنت أظن التأثير تأثيرًا عارضًا، فسمعت أنهم درسوه أكاديميًا فوجدوا لها تحسينًا لما سمّوه: الإدراك المكاني.

بحثت عن هذا الإدراك فوجدته قائمة على قوة الخيال، فتستطيع أن تعرف الاتجاهات، وتتخيل شكل ترتيب غرفة من غير تحريك شيء فعليًا، كله يحدث في ذهنك. وله مستوى أعلى يكون إدراك الذهن في فضاء، أي إدراك ثُلاثي الأبعاد. إدراك الشمال والشرق والغرب والجنوب، وإدراك الفوق والتحت، وإدراك ما بين هذه، فوق شمال شرقي، تحت جنوب غربي، وهكذا.

ويبدو لي هذا الإدراك متجليًا فيمن يعرف القبلة من غير أن يُدَلّ عليها، أو من يركن سيارته وينزل للسوق، فمهما التفّ وصعد ونزل، يعرف جهة سيّارته، هذه أمور تقوّيها في الذهن.

ومما يعني على تعطيل الإدراك كثرة استعمال البوصلات، وبرامج الخرائط، حتى يُصبح المرء ولا يستطيع العودة إلى بيته من غير برنامج الخرائط.

**

لعبة تيترس Tetris أجمل لعبة لعبتها، ولها إصدرات بعدد نجوم السماء، ولكنّها إصدارات شكلية، لا تغير في قوانين اللعبة، لأنك إذا غيرت فيها تغييرًا مهما كان صغيرًا سيفسدها، فهي قائمة على منطق رياضيّ لا يختلّ بالتغيير.

الأحد، 21 سبتمبر 2025

رسائلي إليها (٣)

رسائلي إليها (٣)

يبدو أنني سأطيل عرض هذه الرسائل إذا غدوتُ أحلّلُها في كلّ مرة، لذلك قررتُ مذ اليوم أن أكتفي بنشرها تِباعًا، وأعلّق أحيانًا إذا نشأ عندي تأمّل ما. ولكن قبل أن أبدأ أريد أن أنبّه على بعض الأمور:

ظنّ صديقٌ لي ممن تابعَ الرسائل أنني مُتحايلٌ على القراء الأعزاء، وأن هذه الرسائل من كتابتي وليست من كتابة إنسان غيري، فاعلموا أن ظنّ صديقي غير صحيح، هذه الرسائل منسوبة إلى صاحبها أ.س.

لا أخفيكم أنّ أسلوب هذا الأديب العاشق أ.س. قد مازجَ نفسي فظهرَ بعضُه في أسلوب كتابتي، ولعلّ ذلك ما قذفَ في رُوع صديقي الظنّ الذي ظنّه.

سأحاول الالتزام بنشر رسالة واحدة في كلّ مقالة، وإذا كانت قصيرة سأنشر رسالتين في مقالة واحدة.

ثمَّ ورقة من الحجم الكبير مليئة بالعبارات الجميلة، ليست رسالة وإنما أشبه بمسودة لجمل يكتبها متتابعة على غير نسق، سأجعلها بعد نشر الرسائل.

أترككم مع رسالتين للأديب العاشق أ.س. 

-

عزيزتي،

هل أصبح حبي مبتذلًا؟ لا، لم يكن ولن يكون، ولا كلمة الحبّ بالتي تَبلى إذا كنتِ ضميرَها، أحبّك، أحبّك حتى ينقطع الصوت، أحبك حتى تخور القوى، أحبك إلى أن يقولوا: رحمه الله كان يحبها.

لا أفكر بالسؤال المشهور: هل الحب اختيار أم اضطرار؟ لأني في كلا الحالتين سأكون أحبك.

لم أترك لأحد خيارًا، كلهم مجمعون على أني مجنون، ألا فليُجمعوا! لم أُجنّ لأن فريقي خسر مباراةً، أو لأن سيارتي خُدشت، أو لأن طعامي لم يُتخمني، بل جُننتُ لأنّي أحبك، وما هذا بجنون، ولكنهم لا يعقلون! فإن رقّوا قالوا: مُوَسوسٌ موهوم! وما أصنع بحقيقة لا أتوهّم جمالَها؟ وكيف أنفكّ عن وهمٍ أجد جمالَه حقيقة؟ أكنت في حُلُمٍ دائم، أو واقع موهوم؛ أحبك ولا أحبهم.

أكثرت من ذكر الناس في هذه الرسالة، لقد أغاظني منهم ما سطرته فيها، لا أريد أن أغمك، ولكني أجد الحب اندماج الروحين، وانتظام النبضين، فما أفضيتُ بما يسوؤني إلا إلى نفسي فيك، ولا استبهجتُكِ يومًا بما يسرّني إلا لأسرّك فأُسَر، أنتِ أنا، وأنا أنتِ.


مَنْ يهواكِ دون البشر: أ. س.

-

أودّ أن أعلّق؛ يبدو لي أن أ.س. يعيشُ كثيرًا مع أفكارِه، هو يتخيّل أن الناس اعترضوا طريقه، هم سيفعلون لو أظهر هذه المشاعر، فسبقهم بالردّ قبل أن يبدرون باللوم.

حسنًا.. ترددت في نشر الرسالة التالية، وقلتُ لعلّي أنشر التي بعدَها أولًا، لأنها طويلة قليلًا، ولكن لا بأس.. سألتزم بالتسلسل.

-

عزيزتي،


ها قد مضت سبعةُ شُهور من هذه السنة الغريبة، لا أدري كيف استطعت الصمودَ بلا صُدفة تُحيي رميم عظامي، بلا نظرةٍ تجعلُ لكشحيّ جناحَيْ حُبورٍ أحلّق بهما ولو كان الناس يرَوْنني أمشي على الأرض.


لم أنسَكِ لحظةً، أنّىٰ وأنتِ حاضرةٌ بين كلّ نبضتَين، نبضة تنطقُ بأول حرفَين من اسمك، ونبضة تختمُ بآخر حرفين.


أنتِ الجمال الذي أنتظرُ تنفُّسَهُ في هذه الحياة، وأنت النّدىٰ الذي يبللُ أطرافَ الأزهار فنعلم أنها تبتسم، وأنت النسيم الذي يُناغمُ حقلَ الأرزّ فيتراقصُ ظلّه الذي أطالته الشمس الجانحة للمغيب، أنت اللونُ النقيّ الذي يجمع تناقض الألوان، فيُظهرُ ألا شيء فيه، وفيه كلّ شيء.


في صحراء لا يرىٰ أولها من آخرِها، تغرقُ في سرابِها الجبال، وتهلك في شِعابِها الضباب، وتفنى في وديانِها الأطلاح، لا يكاد سالكُها يصدّق أنه في الدنيا، صحراء يأس مُطبِق، إلا أن لكل إطباق يأس أمل وامض، وأملُها واحة يُحدّثُ عنها الناس ولا يعلمونها، واحةٌ تحفّها كثبان الرمال، وتفترش فيها النجوم، ويتأيّكُ الشجر، وينحني النخيل بأضغاثٍ تحمل رُطبًا؛ وكأنها أيدٍ تختَّمت بالعقيق، وفي وسطها ماء عذبٌ بارد، يسري في الأجساد سريان البرء في الأسقام، يكادُ شاربه لا يظمأ أبدا، فظل ظليل، ونسيم عليل.. وفيها فتاةٌ واحدة تمتشط، وتبتسمُ للجمال بالجمال، هذه الصحراء وواحتها قلبي الذي ما حلّ فيه سواكِ.


لم أكن أحسبُ أن يتفقَ قلبي وعقلي، حتى اتفقا على حُبّكِ، اتّفقا كما تُسلِم الأرضُ ماءَها بُخارًا إلى السماء، وكما ينزاحُ الليلُ برِفْقٍ ليحلّ مكانه النهار، هكذا .. بلا صخبٍ.


عزيزتي.. أختم رسالتي بتحيّتي إليكِ تحملُها تلك النجمة الخَجْلى في ومضاتِها الخافتة.


مُحيّيكِ بالحُسنى: أ.س.

الخميس، 18 سبتمبر 2025

جرير خَنّاق الرجال

جرير خَنّاق الرجال

كانت امرأةٌ من بني يربوع حاملًا، فرأت في منامِها أن حبلًا خرجَ منها، وانطلق إلى أعناق الرجال يخنقهم، فلمّا وضعته سمته جريرًا (الجرير هو الحبل).

عاشَ جرير حياتَه كما يعيشُها أي أعرابيّ، بين مجالس الحكمة والشعر، ورعي الغنم والإبل. وفي ساعة من نهار كان جرير الغلام يرعى إبل أهله، فحلبَ لهم إعجالةً، وأقبل بها على قومه، فرأى الناس مجتمعين، فقال: ما لكم؟ قالوا: هذا غسّان بن ذهيل يُنشد بنا! أي يهجوهم، وغسان كان شاعرَ بني يربوع، غير أنه من فرع آخر ليس من كليب بن يربوع رهط جرير، وقد هجاهم لأن بني كليب أوسعوا بني جحيش هجاءً، ولم يكن في جحيش شاعر، فاستعانوا بغسان السليطي. ولم يزل غسّان يهجوهم، وجرير يتفلّت إليه ليهاجيه فيقولون له: ما لك ولذلك إنما أنت غلام. حتى كان هذا اليوم، فحين جاءهم حَمِيَ، وقال: احملوني على بعير. فأتوه بقَعود، فأشرف على غسّان ومن معه، وقال -وهو إذ ذاك غلام لم يقل شعرًا من قبل-:

لا تحسبَنّي عن سليطٍ غافلا

إلى آخر الأبيات. وما زالا يتهاجيان، يقول غسان خمسة أبيات فيرميه جرير بثلاثين، ويعود غسان بسبعة، فينقضها جرير بمثلها ويزيدها عشرين، يقول غسان:

لعمري لئن كانت بجيلةُ زانَها

جريرٌ لقد أخزى كُليبًا جريرُها

يعني الصحابي جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه كان زينةً لقبيلته بجيلة، وجرير الشاعر خزاةً لكليب بن يربوع، ظن غسان أنه أغلق المعنى على جرير، فجعله بمواجهة مع الصحابي الجليل، ولكنه أخطأ إذ لم يجعلها مقارنةً صريحةً، وجرير العبقري لا يخضع تحت ضغط هذه المغالطة، فقد ردّ على شأنه، ولم يتعرض للصحابي الكريم، بل نصب سليطًا، وجعلها تدافع عن نفسها كما تدافع الخِربان، وكأنه يعني هنا غسانًا نفسَه هو آلة دفاعها، فقال جرير ينقض البيت:

بأستاهها ترمي سليطٌ وتَتّقي

ويرمي نضالًا عن كُليب جريرُها

واستمرّا هكذا حتى صار جرير يفتل ويهجو، ولا يستطيع غسان أن يُجيبه، وخبت جمرة غسان السليطي، ونُسي.

وصارَ جريرٌ وبالًا على الشعراء طوال حياته، لا يهاجيه أحد إلا سحقَه سحقًا، إلا ثلاثة ما غلبهم ولا غلبوه: الفرزدق، والأخطل، وعُمَر بن لجأ، أما الأولان فهما فحول يوازونه في الجودة، وأما عُمَر بن لجأ فهذا الذي وَضعَ الله به رفعة جرير، وقد قال النبي ﷺ حين سُبقت ناقته فشقّ ذلك على أصحابه: (حقّ على الله ألا يرتفع شيء من الدنيا إلا وضعَه) فكان عُمَر بن لجأ وهو شاعر مغمور، دخل في هجاء جرير، وما استطاع جرير أن يغلبه، وسُئل جرير عن هذا فقال: لم أجد مجدًا فأهدمَه! كان ذلك من حظّ عمر بن لجأ أن رهطَه كانوا قرويين لم يخوضوا حروبًا، فلم يجد جرير في تاريخهم شيئًا يعيّرهم به، أما عمر بن لجأ فكان يسرح ويمرح في تاريخ كليب بن يربوع، فهو تاريخ عريق من البطولات والحروب، وكلّ قبيلة تدخل في حروب فلا بدّ لها من هزائم وانتصارات، والهزائم أكبر أبواب الهجاء، قتلنا فلانًا ولم تفعلوا شيئًا، وقتل في جواركم فلان ولم تفعلوا شيئًا، لولا عزهم ما استجار بهم أحد، ولكن لا بد من هذه الأخطاء التي يستغلها المتهاجون.

وجرير لم يكن  يستطيع أن يسحق تميميًا، لأنه تميمي، ولكن إذا كان ضعيفًا فيخنقه، كما حدث مع غسان السليطي والبعيث، لم يدمّرهم بهجاء القبائل والتعيير بالأيام، بل دمّرهم لأنهم لم يستطيعوا مجاراته، وهجاء قوم من قبيلتك من أصعب أبواب الهجاء، ولولا أن الله أيّد حسان بن ثابت بجبريل عليه السلام ما استطاع أن يهجوَ قريشًا ويتجنّب ذكر كل ما يتصل بالنبي ﷺ من فروع وأصول، هذه تحتاج أن تكون فحلًا كحسّان، ويؤازرك علامة في النسب كأبي بكر ويؤيدك روح القدُس!

من أمتَع أبواب الشعر بابُ النقائض، فالإمتاعُ في قراءة قصيدتين متعلقتي المعاني ببعضهما بعضًا إمتاعٌ قلّ نظيره. والنقائض كاسمها قائمةٌ على النقضِ وهو ضدّ الإبرام والفَتْل، فيقول جريرٌ قصيدةً يفتل فيها معانيَ الهجاء والفخر، فيقوم الفرزدق ويقول قصيدةً تنقضُ هذه المعاني، وتنتهي المعركة هكذا بالتعادل، وقد عاش جرير والفرزدق حياتهما كلٌّ ينقض على الآخر، وما استطاع أحدُهما أن يأتيَ بمعنى لم يستطع صاحبُه أن ينقضَه، ولو حدث ذلك لغُلّبَ أحدهما على الآخر ولكن ذلك لم يحدث حتى مات الفرزدق قبل جرير ورثاه جرير.

أما الذين غلبهم جرير فكثير، منهم غسّان السليطي، وسراقة البارقي، والبعيث، والعباس بن يزيد الكندي، هذا الأخير دخل في هجاء جرير في أسوأ وقت تعادي فيه جريرًا، وذلك حين هجا الراعي النميري، والكندي هذا ليس له ناقة ولا جمل، ولكنه لم يكن موفقًا، فجاء ونقض بيتت جرير:

إذا غضبت عليك بنو تميم

حسبت الناس كلهم غضابا

فجاءت كندة تطلب من جرير ألا يذكرهم، فقال لهم: إن كنتم صادقين فاذكروا لي مثالبه. ذلك ليهجوَه ولا يتعرّض لكندة، ففعلوا ذلك، فهجاه هجاءً شديدًا على نفس قافيته البائية، وكان يسمي قافية الباء: المنصورة. وفي الأبيات ذكر فضيحةً تطعن في نسب العباس بن يزيد، لا يعلمها إلا هو ورهطه، فلما بلغته الأبيات مات من الكَمَد!

ومنهم وهو أشهر من سحقهم ومحقهم وأشعرهم؛ راعي الإبل النميري، وكان شاعرًا فحلًا، وهو رابع أربعة في الطبقة الأولى عند ابن سلّام: جرير، والفرزدق، والأخطل، والراعي.

الراعي النميري ليس ضعيفًا، ولكنّ جريرًا أتاه ببيتٍ واحد في قصيدة قِوامُها ثمانون بيتًا، كلّها يسيرة على الراعي، ولكن بيتًا واحدًا لم يستطع الراعي نقضه، فغُلِب، وانهار صرحُ شاعر مُضَر، وصارت بنو نُمير تُعيّر به، وهو قوله المشهور:

فغُضَّ الطرفَ إنك من نُمَيرٍ

فلا كعبًا بلغتَ ولا كِلابا

يا لهذا البيت! ويا لجرير ما أخبثَ شيطانَه! كيف أتى به محكّكًا هكذا!

الشرّ الكامن في هذا البيت أنّه مدّ إليه طَبَقين أحلاهما مُرٌّ مَقِرّ: إما أن تتعالى على أبناء عمومتكم كلب وكعب، وفي ذلك فساد عظيم، فكما قلنا إن الراعي النميري كان شاعر مضر غير منازع، وأن يفخر بقومه على أبناء عمومتهم فهذا سيشعل فتيل فتنةٍ لا يِطفؤها شيء، وجرير لغضبه وحضور الشيطان لم يكن لديه أدنى إشكال في أن يُشعل فتنةً وحربًا بين هذه الأحياء الثلاثة! وإما أن يسكت ويُنهي حياتَه الشعرية بيده، ويغلبه جرير شرّ غِلبة، وهذا ما فعله الشيخُ الحكيم، ومات غمًا بعدها في ذات السنة!

لم يكن جريرٌ ظالمًا ابتداءً، وكان يعذر ويُحذّر، فإذا صالَ لم يُبقِ ولم يذر. كان جالسًا يُملي على راويته وعوعةُ بن سَعيد ولقبه مَرْبع، فمرّت جنازة فسكت جرير، ورفع مربَع نظره إلى جرير ينتظره أن يُكمل، فلم يكمل حتى مضت، فقال: يا مربع؛ شيّبتني هذه الجنائز. فقال مربع: فما لك تُشاتم الناس؟ فقال: يبدَؤونني ثم لا أعفو.

ومن الحكايات غير المشتهرة؛ أن الفرزدق تزوّج النوار ابنةَ عمّه بالحيلة، وهربت منه ولجأت إلى ابن الزبير -رضي الله عنه- وحاولت أن تخلع نفسَها منه فلم تستطع، جلست معه على مضض حتى طلقها وقال بيته المشهور:

ندمت ندامةَ الكسعي لما

غدت مني مطلّقةً نَوار

ومعنى اسم نَوار جميل، ونغمه جميل، وليته ينتشر بيننا؛ النَوار هي النافرة من الريبة.

ولكي ييغيظها تزوج عليها امرأة من بني شيبان نصرانية اسمها حدراء، وأصدقها مئة ناقة! وهذا كثير على نصرانية، وهذا الصداق أكثر مما أعطى النوار! فضاقت النوار بالفرزدق ذرعًا، وقالت له: كيف تصدق نصرانية مِائة ناقة! فهجاها الفرزدق في أبيات ومدح حدراء، فأتت جريرًا، وقالت له: ألا ترى ما يقول الفاسق؟ فقال لها: أنا أكفيكِه. فقال فيه قصيدة ليست من مُخزياته ولكنّه تلاعب فيها بالفرزدق، وهجا حدراء بنت زِيق وأباها، وحذرهم من تزويجهم الفرزدق، ولكن نقضها الفرزدق بسهولة، وقال الفرزدق في موضوع زواجه من أشراف العرب:

ولو تُنكحُ الشمسُ النجومَ بناتِها

إذن لنكحناهنّ قبلَ الكواكبِ!

فقال جرير:

ذكرتَ بنات الشمسِ والشمسُ لم تلدْ

وأَيْهاتَ من حوقِ الحمار الكواكبُ

وهنا ملاحظة؛ جرير هو الذي فتل، والفرزدق نقض، ولكن هذا البيت لجرير هو نقض لبيت الفرزدق، وهذا كثير في النقائض، ويبدو -والله أعلم- أن الشعراء تزيد في قصائدها نقض بعض الأبيات بعد سماع قصيدة الخصم.

وفي هذه المشاجرة كان الفرزدق يقول: إنك تحسدني لأنك لا تستطيع الخطبة إلى بني شيبان، فلن يقبلوا بك. فيقول:

وإني لأخشى إن خطبتَ إليهمُ

عليك الذي لاقى يَسارُ الكواعبِ

يسار هذا كان عبدًا لامرأة اسمها مَنْشَم، ومَنْشَم كانت مشهورةً بجمع العطور من أقطار الأرض وبيعها، وهي المقصودة في قولهم: دُقّ بيننا عطر منشم. لأنهم كانوا يشترون الكافور منها لموتاهم، فصاروا يكنون عن عطر منشم بالشر والحرب التي ستُخلّف قتلى. فراودَها يسار عبدُها عن نفسها، فقالت له: لا بأس، ولكن أريد أن أُشِمّكَ طيبًا وصلني من الجزائر. فأخرجت الطيب وقَرّبته من أنفه، فلما اقترب أخرجت شَفرةً وجدعت أنفه! فيقول الفرزدق: إني أخشى عليك إذا خطبت إلى زِيق الشيبانيّ أن يجدعوا أنفك، لأنك بذلك تتطاول على أسيادك.

ويبدو أن الفرزدق أعجبه البيت، وأن جريرًا غاظه المعنى، فقد قال جرير أبياتًا، فاكتفى الفرزدق ببيت واحد أعاد فيه المعنى فقال:

إن كان أنفُكَ قد أعياكَ محملُهُ

فاركبْ أتانَك ثمّ اخطُبْ إلى زِيقِ

الثلاثاء، 9 سبتمبر 2025

خير الحديث ما كان لحنا

خير الحديث ما كان لحنا

سآخذ بيدك عزيزي القارئ إلى أرض مختلفة، يجلس فيها أهل اللغة يتحدثون عن لفظة واحدة، لفظة قالها شاعرٌ فصيح، اسمه مالك بن أسماء بن خارجة، واسم «أسماء» كانت العرب تُسميه للأنثى والذكر، ثم جُعل بعد ذلك للإناث فقط.

نجد أولًا مالكًا ينطقُ بهذين البيتين الرقيقَين:

وحديثٍ ألذُّهُ .. هو مما

ينعتُ الناعتون يوزَنُ وَزْنا

منطقٌ صائبٌ وتلحَنُ أحيانًا

وخيرُ الحديثِ ما كان لَحْنا

قال البيتين، وتبسّم، ثم ذهب. بعد سنوات في مجلس يجمع زوجَين ليسا كطيور على غصن، ولا كوردتين في بستان، بل زوجين يبغضان بعضهما أيّما بغض، لا يطيق أحدهما الآخر، الكره يملأ البيت، الزوجة العزيزة هند بنت أسماء أخت مالك، وزوجها العزيز الحجاج بن يوسف، مجلس بين زوجَين يتحدثان ويتصيّدان على بعضها بعضًا.

تكلمت هند فلحنت في الكلام، أي أخطأت في الإعراب، فاقتنص ذلك الحجاج وعاب عليها وشنّع، كيف امرأة عربية من فزارة تلحن في الإعراب، يا للهول! سقطت السماء علينا ولا بد! فقالت هند: هذا مَليح في النساء، أما سمعتَ قولَ أخي؟ "وتلحنُ أحيانًا وخيرُ الحديث ما كان لحْنا". فقال الحجاج وكان يعرف أخاها جيدًا، بل ولاه أمورًا كثيرة وكان يقدّره: إن أخاك أراد أن المرأة فطنة، فهي تلحن بالكلام إلى غير المعنى في الظاهر لتستر معناه، وتوري عنه وتفهمه من أرادت بالتعريض، كما قَالَ اللَّه تعالى: ﴿وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ﴾، ولم ترد الخطأ من الكلام، والخطأ لا يستحسن من أحد! لا أدري ماذا فعلت هند بعد هذا النقاش، ولم تكن نهايتهما سعيدة، فقد أرغمته في النهاية على تطليقها، وقالت في الحجاج:

وما هند إلا مهرة عربيةٌ

سليلةُ أفراسٍ تجلّلها بغلُ

فإن نُتِجَت مُهرًا كريمًا فبالحرى

وإن يكُ إقرافٌ فما أنجبَ الفحلُ

أي إذا كان ولدُها حصانًا نجيبًا فهذا منها، وإذا ولدت مقرفًا ليس أصيلًا (المقرف الذي أمه عربية وأبوه ليس كذلك) فهذا بسبب زوجها. فحين سمعها أرسلَ إليها ابنَ القِرّيّة ومعه متعتها مئة ألف درهم، وقال له: طلّقها بكلمتين ولا تزد! فدخل عليها ابن القرية فقال: كُنتِ فبِنْتِ. فقالت هند وقد فرحت أشد الفرح: يا ابن القريّة؛ ما سُررت إذ كان، ولا جزعتُ إذ بان، وهذا المال بشارةٌ لك لما جئتنا به. فاغتاظ من قولها الحجاج غيظًا شديدًا.

نعود للفظة (اللحن) وعندنا فريقين: فريق هند وفريق الحجاج، فسّرها الجاحظ كما فسرتها هند، أنه الخطأ، وأنه يُستملح أن تتكلم الجاريةُ بكلام فيه أخطاء، وألا تُقيم الفصاحة، كما استملح اللثغة في الجواري أيضًا، وعدّ ذلك من الغنج وذكرَ ذلك في كتابه البيان والتبين.

وفي يومٍ من الأيام اجتمع الجاحظ ويحيى بن علي بن المنجّم، فقال يحيى: إني قرأت في فصل من كتابك المسمى كتاب البيان والتبيين: إن مما يستحسن من النساء اللحن في الكلام، واستشهدت ببيتي مالك بْن أسماء. قال الجاحظ: وهو كذلك. ثم أخبر يحيى الجاحظَ بخبر هند والحجاج، فانصدمَ الجاحظ، ووجم وسكت يفكر، ثم رفع رأسه وقال: لو سقط إلي (لو وصلني) هذا الخبر لما قلت ما تقدم. فقال يحيى: فأصلحه! قال الجاحظ: أفعل، ولكن كيف بما سارت به الركبان؟

واللّحَن بمعنى الفطنة والكلام بالإشارة قال به العلماء، فقد رواه أبو علي القالي بإسناده عن ابن الأعرابي، ورواه بإسناده عن عيسى بن عمر، في خبر عن معاوية رضي الله عنه أنه سأل عن زياد فقال: كيف هو فيكم؟ قالوا: ظريفٌ على أنه يلحن. قال: ذلك أظرف له. ذهب رضي الله عنه إلى معنى الفطنة، وهم كانوا يقصدون أنه يخطي في كلامه.

وقال الليث: تأويلُه وخير الحديث من مثل هذه الجارية ما كان يعرفه كلّ أحد، إنما يُعرَف أمرها في أنحاء قولها.

أزيدكم متعةً إن كنتم مستمتعين؟ سأفتح لسان العرب وأقرأ معكم وأعلق:

قال: "اللحْن، من الأصواتِ المصوغة الموضوعة، وجمعه ألحان ولُحون، ولحّن في قراءته إذا غرّد وطرّب فيها بألحان … وهو ألحنُ الناسِ إذا كان أحسنهم قراءةً أو غناءً." بدأ ابن منظور حديثه عن اللحن من الأساس، وهو تعلقه بالصوت، ثم ذكر أنه من الغناء كما نسميه. ثم قال: "واللُّحَنة: الذي يُلحِّنُ الناس" أي يخطّئهم، وما أكثرهم، وما أبرّئ نفسي "واللُّحْنة: الذي يُلحَّن" وهم الآخَرون الذين نخنقهم بالتصحيح والتخطئة.

قال: "وقول الطرمّاح:

وأدّت إليّ القولَ عنهنّ زَوْلةٌ

تُلاحِنُ أو ترنو لقول المُلاحِنِ

أي تَكلَّمُ بمعنى كلامٍ لا يُفطن له، ويخفى على الناس غيري." ثم قال: "وقال القتّال الكلابيّ:

ولقد لحنتُ لكمْ لكيما تفهَموا

ولحنتُ لحْنًا ليس بالمُرتابِ" ثم قال: " ومنه قيلَ رجلٌ لحِن إذا كان فطنًا؛ وقال لبيد:

متعوّذٌ لحِنٌ يعيدُ بكفِّهِ

قَلَمًا على عُسُبٍ ذبُلنَ وبانِ"

وهذه موافقة صريحة من السادة الشعراء الذين شرّفونا في المقالة؛ الطرماح والقتال الكلابي ولبيد، ينضمون إلى فريق الحجاج.

وآخرًا وليس أخيرًا: "قال عثمان بن جنّي: منطقٌ صائبٌ أي تارةً تورد القولَ صائبًا مُسدّدًا، وأخرى تتحرّف فيه، وتلحَنُ أي تعدِلَه عن الجهة الواضحة متعمّدةً بذلك تَلَعُّبًا بالقول." إلى فريق الحجّاج. وقال ابن منظور: "وقيل معنى قوله وتلحنُ أحيانًا أنها تخطئ في الإعراب، وذلك مما يُستملح من الجواري، ذلك إذا كان خفيفًا، ويُستثقل منهنّ حاقُّ الإعراب."

وهذه الصيغة أعني (قيل) صيغة تَشي بوهن الرأي، فأكثر العلماء على الشرح الأول، شرح الحجاج.

ثم لخّص ابن منظور الباب، ووضع المعاني كلها أمامك، يقول: "للحنِ ستة معانٍ: الخطأ في الإعراب، واللغة، والغناء، والفِطنة، والتعريض، والمعنى." الغناء شواهدُ جميلة، قال يزيد بن النعمان:

وهاتفَينِ بشجوٍ بعدما سَجَعتْ

وُرق الحَمام بترجيعٍ وإرنانِ

باتا على غُصُنِ بانٍ في ذُرى فَنَنٍ

يُردِّدانِ لُحونًا ذاتَ ألوانِ

وقال: "يقال فلانٌ لا يعرف لحنَ هذا الشعر، أي لا يعرفُ كيف يغنّيه." ولا أدري هل يقصد بذلك غناء الوَزن أم الغناء عامةً.

فالفريقان:

فريق الحجاج: معاوية رضي الله عنه، وعيسى بن عمر، والأصمعي، وابن المنجّم، والليث، والطرماح، والقتال الكلابيّ، ولبيد بن ربيعة، وابن جنّيْ.

فريق هند: الجاحظ.

ويبدو أن هند ذهبت مع فريق الحجاج ولكن لا تريد الاعتراف بذلك.

رأي ثالث في قصيدة حسن صميلي

 رأي ثالث في قصيدة حسن صميلي لستُ أبدي رأيًا في شعرٍ لم يطلبه شاعرُه، فإني أغنى الناس عن قولة: "مَنْ طَلَبَ رأيك؟". ولكنّي وجدتُ ا...