الأحد، 21 سبتمبر 2025

رسائلي إليها (٣)

رسائلي إليها (٣)

يبدو أنني سأطيل عرض هذه الرسائل إذا غدوتُ أحلّلُها في كلّ مرة، لذلك قررتُ مذ اليوم أن أكتفي بنشرها تِباعًا، وأعلّق أحيانًا إذا نشأ عندي تأمّل ما. ولكن قبل أن أبدأ أريد أن أنبّه على بعض الأمور:

ظنّ صديقٌ لي ممن تابعَ الرسائل أنني مُتحايلٌ على القراء الأعزاء، وأن هذه الرسائل من كتابتي وليست من كتابة إنسان غيري، فاعلموا أن ظنّ صديقي غير صحيح، هذه الرسائل منسوبة إلى صاحبها أ.س.

لا أخفيكم أنّ أسلوب هذا الأديب العاشق أ.س. قد مازجَ نفسي فظهرَ بعضُه في أسلوب كتابتي، ولعلّ ذلك ما قذفَ في رُوع صديقي الظنّ الذي ظنّه.

سأحاول الالتزام بنشر رسالة واحدة في كلّ مقالة، وإذا كانت قصيرة سأنشر رسالتين في مقالة واحدة.

ثمَّ ورقة من الحجم الكبير مليئة بالعبارات الجميلة، ليست رسالة وإنما أشبه بمسودة لجمل يكتبها متتابعة على غير نسق، سأجعلها بعد نشر الرسائل.

أترككم مع رسالتين للأديب العاشق أ.س. 

-

عزيزتي،

هل أصبح حبي مبتذلًا؟ لا، لم يكن ولن يكون، ولا كلمة الحبّ بالتي تَبلى إذا كنتِ ضميرَها، أحبّك، أحبّك حتى ينقطع الصوت، أحبك حتى تخور القوى، أحبك إلى أن يقولوا: رحمه الله كان يحبها.

لا أفكر بالسؤال المشهور: هل الحب اختيار أم اضطرار؟ لأني في كلا الحالتين سأكون أحبك.

لم أترك لأحد خيارًا، كلهم مجمعون على أني مجنون، ألا فليُجمعوا! لم أُجنّ لأن فريقي خسر مباراةً، أو لأن سيارتي خُدشت، أو لأن طعامي لم يُتخمني، بل جُننتُ لأنّي أحبك، وما هذا بجنون، ولكنهم لا يعقلون! فإن رقّوا قالوا: مُوَسوسٌ موهوم! وما أصنع بحقيقة لا أتوهّم جمالَها؟ وكيف أنفكّ عن وهمٍ أجد جمالَه حقيقة؟ أكنت في حُلُمٍ دائم، أو واقع موهوم؛ أحبك ولا أحبهم.

أكثرت من ذكر الناس في هذه الرسالة، لقد أغاظني منهم ما سطرته فيها، لا أريد أن أغمك، ولكني أجد الحب اندماج الروحين، وانتظام النبضين، فما أفضيتُ بما يسوؤني إلا إلى نفسي فيك، ولا استبهجتُكِ يومًا بما يسرّني إلا لأسرّك فأُسَر، أنتِ أنا، وأنا أنتِ.


مَنْ يهواكِ دون البشر: أ. س.

-

أودّ أن أعلّق؛ يبدو لي أن أ.س. يعيشُ كثيرًا مع أفكارِه، هو يتخيّل أن الناس اعترضوا طريقه، هم سيفعلون لو أظهر هذه المشاعر، فسبقهم بالردّ قبل أن يبدرون باللوم.

حسنًا.. ترددت في نشر الرسالة التالية، وقلتُ لعلّي أنشر التي بعدَها أولًا، لأنها طويلة قليلًا، ولكن لا بأس.. سألتزم بالتسلسل.

-

عزيزتي،


ها قد مضت سبعةُ شُهور من هذه السنة الغريبة، لا أدري كيف استطعت الصمودَ بلا صُدفة تُحيي رميم عظامي، بلا نظرةٍ تجعلُ لكشحيّ جناحَيْ حُبورٍ أحلّق بهما ولو كان الناس يرَوْنني أمشي على الأرض.


لم أنسَكِ لحظةً، أنّىٰ وأنتِ حاضرةٌ بين كلّ نبضتَين، نبضة تنطقُ بأول حرفَين من اسمك، ونبضة تختمُ بآخر حرفين.


أنتِ الجمال الذي أنتظرُ تنفُّسَهُ في هذه الحياة، وأنت النّدىٰ الذي يبللُ أطرافَ الأزهار فنعلم أنها تبتسم، وأنت النسيم الذي يُناغمُ حقلَ الأرزّ فيتراقصُ ظلّه الذي أطالته الشمس الجانحة للمغيب، أنت اللونُ النقيّ الذي يجمع تناقض الألوان، فيُظهرُ ألا شيء فيه، وفيه كلّ شيء.


في صحراء لا يرىٰ أولها من آخرِها، تغرقُ في سرابِها الجبال، وتهلك في شِعابِها الضباب، وتفنى في وديانِها الأطلاح، لا يكاد سالكُها يصدّق أنه في الدنيا، صحراء يأس مُطبِق، إلا أن لكل إطباق يأس أمل وامض، وأملُها واحة يُحدّثُ عنها الناس ولا يعلمونها، واحةٌ تحفّها كثبان الرمال، وتفترش فيها النجوم، ويتأيّكُ الشجر، وينحني النخيل بأضغاثٍ تحمل رُطبًا؛ وكأنها أيدٍ تختَّمت بالعقيق، وفي وسطها ماء عذبٌ بارد، يسري في الأجساد سريان البرء في الأسقام، يكادُ شاربه لا يظمأ أبدا، فظل ظليل، ونسيم عليل.. وفيها فتاةٌ واحدة تمتشط، وتبتسمُ للجمال بالجمال، هذه الصحراء وواحتها قلبي الذي ما حلّ فيه سواكِ.


لم أكن أحسبُ أن يتفقَ قلبي وعقلي، حتى اتفقا على حُبّكِ، اتّفقا كما تُسلِم الأرضُ ماءَها بُخارًا إلى السماء، وكما ينزاحُ الليلُ برِفْقٍ ليحلّ مكانه النهار، هكذا .. بلا صخبٍ.


عزيزتي.. أختم رسالتي بتحيّتي إليكِ تحملُها تلك النجمة الخَجْلى في ومضاتِها الخافتة.


مُحيّيكِ بالحُسنى: أ.س.

هناك 3 تعليقات:

  1. يبدو أن الكاتب – وهو ينشر هذه الرسائل – قد وقع أسير سحر الأسلوب قبل أن يقف على حقيقة التجربة. الرسائل لا تُنكر بلاغتها ولا صدق عاطفتها، لكن القارئ الفطن يلحظ أن العاطفة فيها قد تجاوزت طور البوح الطبيعي لتغدو ضربًا من التهويم الوجداني الذي يغلِّب الإحساس على المعنى، ويقدّم الانفعال على البناء. كثرة الصور البلاغية وتوالي الاستعارات، وإن أظهرت تمكنًا لغويًا، إلا أنها تُثقِل الرسالة وتباعدها عن صفاء التجربة الأولى. ثم إن حضور الناس في الرسالة الأولى حضور مصطنع، إذ يخاصمهم الكاتب قبل أن يخاصموه، ويستبِق ردودهم بما لم يقولوا. أمّا الرسالة الثانية ففيها إشراقات شعرية آسرة، لكنها تنحو نحو الإطالة التي قد تضعف أثرها. باختصار: الرسائل جميلة في روحها، لكن جمالها يزداد متى تجرّدت من الحشو وتطهّرت من الإفراط في الزينة.

    ردحذف
    الردود
    1. بدأ الأزيب ينسجم ويتفرع في تجربه، ووقف محاججًا للناس وهم لا يدرون عنه، وقف يحاجج عاداتهم في اللوم وعيبهم المعتاد لم يخوض الوادي.

      حذف
    2. أحسنت وأصبتَ؛ فالكاتب حقًّا لم ينتظر مواجهة الناس ولا اعتراضهم، بل تخيّلهم قائمين عليه باللوم فعاجلهم بردٍّ واستباق للحجة، وكأنما أراد أن يُبرِّئ حبَّه قبل أن يُتَّهَم، وهذا دليل على أن التجربة بدأت تتشعّب في داخله وتستقلّ بوجدانها عن الواقع.

      حذف

رسائلي إليها (٣)

رسائلي إليها (٣) يبدو أنني سأطيل عرض هذه الرسائل إذا غدوتُ أحلّلُها في كلّ مرة، لذلك قررتُ مذ اليوم أن أكتفي بنشرها تِباعًا، وأعلّق أحيانًا ...