الأحد، 19 أكتوبر 2025

قاعدة في فهم الشعر

 قاعدة في فهم الشعر

في الشعر لا تعارض العلماء القدماء، ولكن ادرس كلامهم وتفهّمه.

لأنك إذا عارضتهم فليس في علم الشعر وحيٌ تعود إليه، بل آراء، فإذا رددت كلامهم أصبحت ولا آلة عندك في فهمه.

وأعني بالقدماء أبا عمرو والأصمعي والكسائي وسيبويه والمبرد وثعلب وطبقتهم.

وقد نفعتني هذه القاعدة في فهم كثير من الشعر، ولو كنت أردّ كل كلمة لم أفهمها، لفاتني كثير من العلم.

فمن ذلك قولهم إن أهجى بيت هو قول جرير:

فغض الطرف إنك من نُمير

فلا كعبًا بلغتَ ولا كلابا

فعشت زمنًا أبحث عن إجابة لعلة تقديمه، وسألت فلم أجد شيئًا، فممن سألت من قال: وضعَهم لأنه قال لم تبلغوا كعبًا ولا كلابًا واسما القبيلتين فيه مهانة. ولم أقتنع بهذه الإجابة، حتى علمني ربي أنه هجاهم هجاءً مُقذِعًا، قال عمر رضي الله عنه للحطيئة: اجتنب المقذع من الهجاء. فقال: وما المقذع؟ قال: تفضيل قوم على قوم. فهذا أول خيط الفهم أنه هجا بني نمير بن عامر بأشدّ أنواع الهجاء. ثم نظرت فوجدت الراعي قادرًا على ردّ هذا البيت، بالغض من أبناء عمومتهم بني كعب بن ربيعة بن عامر وبني كلاب بن ربيعة بن عامر، ولكنّه بذلك سيُشعل فتنة بينهم، فآثر الانهزام والسكوت عن هذا البيت. ودلّني ذلك إلى المغالبة في الهجاء، فهي أن يقول الشاعر بيتًا فخرًا أو هجاءً فينقضه عليه خصمه، فإذا لم يستطع نقض الهجاء غُلِب. ورأيت أن الفرزدق وجرير ما زالا يتعاركان ولا يهتدي أحدهما إلى الإحاطة بصاحبه حتى يغلبه. فكان هذا الفهم الذي هداني إليه ربي فاتحةً لفهم كثير من الشعر.

فمما أخبروا أن ليلى الأخيلية غلبت النابغة الجعدي، استنكرت ذلك وأكبرته، ولكن سلّمت به، وعرفت العلة بعد ذلك حين فهمت تغليب جرير، فقد فعلت ليلى مثل ما فعله جرير، ولكن ردها كان نقضًا لقول النابغة:

ألا حييا ليلى وقولا لها هلا

فقد ركبت أيرًا أغرّ مُحجّلا

هلا كلمة تُهدّأ بها الفَرَس عند الضراب، فقالت ليلى:

تُعيّرني داءً بأمك مثله؟

وأي حَصان لا يُقال لها هلا؟

فكان ردّها أن الحصان غير المعتادة ستكون خائفة فسيُحاول أهلها تهدِأتَها، فجعلت النابغة بين نارين، إما أن يقول أن أمه لا يُقال لها هلا وهذا معناه أنها ليست بحصان، أو يُقرّ بذلك فيعود قوله الأول على أمه كما هو على ليلى! فسكت عن الثنتين كما سكت الراعي، فغلبته ليلى.

مَظهَر أخير من توقير كلام السلف وعدم معارضتهم؛ أني قرأت خبرًا أن الأصمعي قرأ شعر الحطيئة على أبي عمرو، فبلغ قوله:

وغررتني وزعمتَ أنّكَ

لابنٌ بالصيفِ تامِر

أي خدعتني وزعمت أنك صاحب لبن وتمر، فصحّف الأصمعي فقرأها:

وغررتني وزعمتَ أنك

لا تَني بالضيفِ تامُر

أي خدعتني وزعمت أنك لا تفتر عن الأمر بإكرام الضيف. وتصحيف الأصمعي منطقي، لأن رسم (لابن) كرسم (لاتن) فقال أبو عمرو: تصحيفك أحسن من بيت الحطيئة. فاستنكرت أن يكون تصحيف للأصمعي أشرفَ من بيت للحطيئة، وبعد وقت قرأت قصيدة الحطيئة، ووجدت أن البيت لوحده هكذا سيكون نعم تصحيف الأصمعي أشرف وأحسن من بيت الحطيئة، لأن فيه شكوى، ولكن البيت مع ما بعده أفضل وأحسن وأعلى،  ويحول المعنى من الشكوى إلى الاستهزاء ، قال الحطيئة:

وغررتني وزعمتَ أنّكَ

لابنٌ بالصيفِ تامِر

ولقد صدقتَ فهل خشيتَ

بأن تدور بك الدوائر

فكذّبه أولًا، ثم صدّقه وقرن تصديقه بوصفه بالبخل، وحاصره، فصدق الإمام أبو عمرو وأحسن الأصمعي وأحسن الحطيئة.

هناك 5 تعليقات:

قاعدة في فهم الشعر

  قاعدة في فهم الشعر في الشعر لا تعارض العلماء القدماء، ولكن ادرس كلامهم وتفهّمه. لأنك إذا عارضتهم فليس في علم الشعر وحيٌ تعود إليه، بل آراء...