السبت، 30 أغسطس 2025

الحَلُّ لكل شيء

 الحلُّ لكلّ شيء


حين يجلس وحدَه رجلٌ كثير التفكير والقلق تصل به أفكارُه إلى مُعضِلاتٍ لا حلّ لها، ولا يرتاح باله حتى يبلغ بعَقْدِه الأفكارَ شِباكَ المسائل المُعضِلة. فتراه يُفكّر في وظيفته فيقول: كيف أكون موظفًا صالحًا والمؤسسة فاسدة؟ ما الذي أفعله إن كنتُ لا أُقدَّر بل لعلي أحاسب ظُلمًا إذا كنتُ موظفًا مثاليًا شغوفًا بالتصحيح، فيرتاح إلى أن المثالية مستحيلة بوجود المؤسسة الفاسدة، وأنه لا تصح المثالية حتى تصلح المؤسسة وهذا أمر خارجٌ عن إرادته، ثم يرفع كتفيه وكفيه، ويقوّس شفتَيه مُبَرْطِمًا، ويرتاح لبلوغه هذه المعضلة. أسمعك تسألُ ما البَرْطمة؟ هي العُبوس في انتفاخ يظهر جليًا في الشفة، قال أبو عبيد: البِرطام الضخم الشفة. وقال ابن دُريد: وهو البُراطِم. وأنشد:

مُبَرْطِمٌ برطمةَ الغضبانِ

بشفةٍ ليست على أسنانِ

وبذلك نُسمي الشفة بُرْطُمًا، ولا أجدُها كذا في غير كلام الناس.

نعود لصاحبِنا؛ تراه بعد ذلك يُفكّر في الزواج وقد جاوز الثلاثين، ويقول: أنا أريد أن أتزوّج ولكن أخشى أولًا ألا يكفي راتبي، فتخيل لو جهدنا بسبب قلة راتبي! وأيضًا ما الذي أفعله لو اختلفنا ولم ترضَ بالكلام العقلاني! [هكذا يسمع في المواقع أن النساء مجنونات، ويصدق هذا] ثم يقول: يا أخي الزواج معضلة لا حلّ لها!

وهكذا دوالَيك، لا يُدير فكره في شيء حتى يُغلقه بتخيّلات يظنها مُعضلات، ويرتاح بإغلاق باب التفكير، فهل لهذه المعضلات حلّ؟ الدنيا كلها مُغلقةٌ على بعضها، لا تنزل فيها واديًا إلا أحاطت بك مكاره لن تُحسن التعامل معها، فما الحل؟ ما الذي يُصلح الإنسان، ويصلح دنياه وأخراه؟

إني نظرتُ في هذا الأمر مرارًا، ولم أعلم أن الإجابة أمام عيني، أنظرُ إليها ولا أعلم أنها الإجابة والحلّ لكل شيء.

ما الذي أريده؟ أريد ألّا أخطئ! أما بالاعتماد على عقلي ونفسي فإني لن أصيب وأنا أريد ألا أخطئ، فلذلك ثمَّ حلٌّ واحد؛ وهو أن أتابع من لا يخطئ، كلّ شيء يفعله صواب، وكل نصيحة منه لا تقبل الخطأ موضوعيًا لا نسبيًا، هل في الناس مثله؟ نعم اللهم صلِّ وسلّم وبارك عليه.

انظر في سيرة النبي ﷺ وأحاديثه الطيّبة، واحذُها ولا تخرج عنها، وبذلك لن تُخطئ في تعاملك مع أحد، وليكن هذا جناحك الأوّل، وجناحُك الثاني إذا لم تستحضر موقف النبي ﷺ من كلّ صغيرة وكبيرة في حياتك، فإن لديك مفهومًا أوسع وهو التقوى، تقوى الله ﷻ فإنك لو اتقيت الله في حياتك لم تكن ملومًا ولن تزلّ في شيء قطّ، تقوى الله تقصم الرأي القائل أن الاختلاف بين الناس لا بدّ منه، فهل تتصوّر خلافًا بين اثنين جعلا التقوى نهجًا لهما؟ أكانا متبايعين أو متزوجين أو متضايقين أو ما شئت مما يتفاعل به الناس بينه بعضهم بعضًا.

والمرء لو اتقى الله جعل له مخرجًا، ورزقه الله من حيث لا يحتسب، فتجده يغض بصرَه تقوًى، ويسلّم تقوًى، ويُميط الأذى عن الطريق تقوًى، ويدعو لمن وقف بجانبه تقوًى، ويعفو عمن أساءَ إليه تقوًى، هل يتركه الله ﷻ يواجه معضلات الحياة وحدَه؟

يجلس رجل إلى مائدة أعدتها زوجته فيذوق الطعام فيجده خاليًا من الملح، فيتّقي الله أن يقول ما لا يرضيه، أو ينطق ما يُحزن من حوله، فيأكل ويستحسن ويحمد الله. ويريد آخر أن يخرج سيارته مستعجلًا فيجد عاملَ النظافة قد وقف خلف السيارة يقمّ، فيكون بين أن ينزرَه فيرتبك العامل ويتنحى، وبين أن يتقي الله في المسكين ويتركه ينهي عمله، فيتقي الله ويتركه ويبتسم له وهو خارج، فلعلّ الله يغفر له بهذه الرحمة.


التقوى حلٌّ لكلّ شيء.

الجمعة، 29 أغسطس 2025

تحت ظلال الصنوبر: تأملات في تركيا

تحت ظلال الصنوبر

تأملات في تركيا

أمشي في إحدى بحيرات تركيا وارفة الشجر، اسم هذه البحيرة قَوْلجَكْ gülcük، طولُ البحيرة خمسَ مِئة متر، وعرضُها مئة وثلاثون، لطيفةٌ ملمومة، تحضنها الجبال، وتحفّها أشجار البرقوق والصنوبر، وفي ضفّةٍ بيتٌ ريفيّ كبير ذو سقفٍ مائل، عُنّابيّ السقف، أبيض الحُروف.

في مواضع من البحيرة تجتمع الزنابق اجتماع الجواري، زنابق صفراء ووردية، لم أرَ كجمالِها زهرةً وهي في الماء متّكئةً على ورقها المستدير، المكان جميل والناس الذين يمشون جميلون، ربما أكون القذاة في هذا الجمال كله، وهل كمُلَ جمالٌ قطّ؟ حتى البحر الكامل لم يكمل جمالُه دع ذلك عنك.

دُرت حولَ البحيرة ساهمَ الفكر، أتمثّل قولَ المتنبي:

مغاني الشعبِ طيبًا في المغاني

كمنزلةٍ الربيعِ من الزمانِ


ولكنّ الفتى العربيّ فيها

غريبُ الوجه واليدِ واللسانِ

وحين تتخلل الشمس بين شجر الصنوبر، أذكر قول المتنبي كذلك:

وألقى الشرقُ منها في ثيابي

دنانيرًا تفرّ من البنانِ

كنت أسير ومعي كامرتي اشتريتها منذ زمن، نوعُها Fujifilm ألتقط الجمالَ هنا وهناك، وإن كانت نفسُ الشاعرِ تلتقط أسرع وأعمق مما تلتقط الكوامر، ولست بالمصور المحترف، وإنما أجرب وأزيد مقياس كذا وأقلل كذا، حتى تظهر صورة جميلة فأعتمدها، وهذه التجربة في ذاتها ممتعة، وهذه عادتي في تعلم شيءٍ جديد، دُلّني على الطريق واتركني أجرّب، ولعل هذه الطريقة من أبواب الأصالة.

وكان مما أريدُ تجربته أن تكون الشمسُ على شيء ما، فتُظهر ألوانَه، ومن حوله ظلام وظلال، فتُبرزه، وهذا أسلوب باروكي في الرسم، وتقنية تُسمى clair-obscur، ومعناها النور والظل، نورٌ يوضّح ما هو عليه، وظلال قاتمة على غيره، هذا التباين الحادّ يفجّر مشاعر وإحساسات جميلة، أقدم وأتقن من أعرفه بدأ هذا الأسلوب هو ليوناردو دا فينشي، ولو شئتم فانظروا لوحة عذراء الصخور نُسخة لندن. ومن المشاهير في الأسلوب الباروكي كارافاجيو الإيطالي، ورامبرانت الهولندي، ولعلي أشير إلى لوحة لكارافاجيو تصوّر نرجس، الشاب الذي أطال النظر في البركة وعشق نفسه، حتى مات، ونبتت مكانه وردة سُمّيت النرجس، واشتقّ منه اضطراب الشخصية النرجسية.

هذا أردتُهُ في التصوير، وفي صورة تعبثت فيها بالتعرّض للضوء، وصورت يدي مع حشائش من خلفها، فجاءت الصورة كما أحبّ! وكدت أصرخ فرحًا، وصار لصوري معنى جميلٌ يشبهني.

وفي بحيرة توبوك وهي بحيرة مرتفعة تمتلئ بمنابع الماء الجبلية، بحيرة تأسر النفس، وفيها منتجع خاص بنادي فَنَرْبَخْشَهْ؛ كنَا جالسين فأقبل علينا رجل تُركيّ، وجلس، وهذه عادة وجدتها عندهم، عند كبار السن منهم، يمرّ الرجل على جيرانه من المتنزّهين، فيأخذ فنجالَ قهوة ويتحدث ثم يغادر، فجلس هذا الشيخ، وأخبرنا بلغة حاول أن يجعلها عربيةً ما استطاع بأنه من مدينة في جنوب تركيا قرب سوريا، وبذلك يعرف اللغة العربية، أحسب اسم مدينته أُورْفَهْ، ثم أقبل صِهره وكان يُحسن الانجليزية فسلس الكلام بيننا وبينه، كان حوارًا عاديًا، ولكنْ لَحَظتُ ملوحظتين، أن الشيخ الكبير يذكر كثيرًا السعودية، لأنه زار مكة والمدينة قبل سنوات، فحين نتكلم عن العملات يسألنا عن الريال، وحين نتكلم عن القهوة يذكر إفطار الصائم، ورأيتُ الشوق يلوح بين عينيه.

وخالطَ نفسي بشاشةً؛ إقبال ابنٍ صغير، فكلّمه أبوه بالتركية، ثم أشار إليه ليجلس وقال: مسلمين مسلمين. نعم لا يجمعنا نسب ولا لغة ولا دولة ولا شيء مما يأمن به المرء جانب من يخالط إلا خيرًا من ذلك كله؛ دين الإسلام، ويعجبني أحد الإخوة كان يُنشد بيت أبي تمام هكذا:

إن يختلف نسبٌ يؤلف بيننا

دِينٌ أقمناهُ مقامَ الوالدِ

تفكّرتُ في أمر حين كنت أتجول في إحدى البازارات الشعبية؛ حين رأيت الفلاحين شيوخًا وشبانًا يبيعون محاصيل مزارعهم، رأيت طبقةً لست معتادًا عليها، فليس في الكويت هذه الطبقة، طبقةٌ تقضي يومَها بعمليةٍ وسعي، طبقة لا تعاني من الفراغ والملل، الزحام عندهم ليس مشكلةً، والتواصل عفوٌ لا تكلّف فيه، والمناداة على البضاعة بصوت عالٍ أمرٌ لا حرج فيه، ينادي الشابّ على خياره وطَماطِه بتتابع من غير تركيز في كلّ مرة يعلي صوته فيها، يعزل نفسه عن عَزْمِ المناداة في كلّ مرة.

ومما تأملتُه وكنّا في ميناء غَلَطَهْ؛ أني رأيتُ أصناف الناس، من كلّ عِرق، وفيهم الملتزم وغير الملتزم، الملتحي وغير الملتحي، والمحجبة وغير المحجبة، وصاحب السمت وغير صاحب السمت، والمحتشمة وغير المحتشمة؛ فأدركتني فكرة أن هؤلاء كلٌّ وَحدَه مُكلّف بما كلّف الله به العباد، وكلهم مسلمون، وكلهم أمة محمد ﷺ، لا يحسبن أحد أن وصف الأمة خاصٌّ بمن يلازم المسجد، أمة محمد ﷺ العظيمة فيها الظالم لنفسه، والمقتصد، والسابق بالخيرات، هذه أمة محمد ﷺ التي يشفع لها يوم القيامة ويقول: ربِّ أمتي أمتي. وأذكر سمعت قصةً يرويها الشيخ سعيد الكملي -حفظه الله ووفقه- عن بعض الشيوخ في المغرب أنه كان شديدًا جدًا في خُطبِه ومواعظه على المسرفين، فحضر أحد شيوخِه خُطبةً له، فلما انتهت الصلاة، وانصرف الناس، دعاه وركبا معًا إلى مكان يجتمع فيه الناس من العصر إلى الليل، وأكثرهم الغافلون المنصرفون عن العبادات [قلت: وكأني بهذا المكان مزدحمًا ضيّق السبيل، وعلى جوانبه مقاهٍ يجلسون فيها ويدخنون ويتابعون المباريات، ويتحدثون ويصخبون.] فقال الشيخ: أترى هذه الناس؟ هذه أمة رسول الله ﷺ فارفق بهم. ثم علّق سعيد الكملي: ليست الأمة محصورةً في هؤلاء الذين تراهم في المسجد ويصومون ويقومون الليل ويتصدقون، هؤلاء بعض أمة النبي ﷺ وهؤلاء أيضًا أمته [يعني المسرفين الغافلين] ثم عاد للتعليق على قوله تعالى ‫﴿قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله﴾‬ قال: هذه الياء في عبادي تُكتب بماء العين!

الأربعاء، 27 أغسطس 2025

رسائلي إليها (٢)

رسائلي إليها

(٢)

انشغلتُ بأخرة في حياتي ونسيتُ رسائل أ. س.، والآن بعد أن وجدتُ فُسحةً في يومي فإني سأفتح لكم رسالة أخرى، لقد اختصر عليّ وقتًا بتأريخِه الرسائلَ من الخارج، فهي مرتبةٌ أمامي، فالرسالة التي سأوردُها لكم كُتبت بعد الرسالة الماضية، فنحنُ نسيرُ على ترتيب زمني صحيح.

هذه الرسالة فيها أمورٌ كثيرة، فيها ذِكرٌ للناس، وشيءٌ من شِعرٍ قليل، ومنام!

وفيها يُقدّم وعودًا ويقرّر مشاعرَها، ولو كان هذا حقًا لا توهّمًا منه فلم لم يسلمها هذه الرسائل؟ لقد كان يعيش في عالم صنعَه بيدِه.

قال العاشق:

عزيزتي،

لم يغفُ خاطري عنك لحظة، ولم تنشغل نفسي بغيرك، يومٌ فيومٌ، وشهرٌ فشهر، وعامٌ فعام، فإن رأيتني أرمي ببصري إلى السماء تارة، وإلى موضع خطواتي تارة؛ فاعلمي أني أحمل نفسي على ذلك حملًا، اتقاءً واحترازًا، فإن الناس لا يدعون قالةً لا يقولونها فينا لو أقبلتُ عليك وأقبلتِ عليّ، فثِقي بثبات حُب فتاكِ، فإنه ما بدّل ولا تبدّل، ولا غيّرَ ولا تغيّر، وستبقين له غاية مناه، وجنةَ روحه، ما نظر ناظر، وغنّى شاعر.

أتعلمين؛ كنتُ شغوفًا بالناس، أنشدهم أشعاري، وأروي لهم أخباري، فأصبحتُ لا أحفل بناطق، ولا أولي إنشادي لسامع، وكم استُنشدتُ فغلبَني الهُيام، واستهامتني الفكرة، ووجمتُ وجومَ المحزون، إذ كان كلّ حرف في شعري مسلكه إليك، ومعقوده عليك، وجماله يباهي بحضورك، وإني لأرفع حُبي النقي، عن كل متلقّف لقوافيّ النقية، هي لك وحدك، لك أنتِ فقط.


دعي ذلك، رأيتك ذات منام، وقد فاخرتِني بساعتك، أذكر الموقف أنني كنت أمسك ساعةً فضية، فلما رأيتِها تذكرتِ ساعتك فاقتربت مني، وقربت ساعتك إلى ساعتي، أذكر ساعتك جيدًا؛ كانت زرقاء السير، سوداء الإطار، تمسكها أنامل ألطف من حفيف الأزهار، وأملح من بواكير النهار، فصحوت سعيدًا منشرح الصدر، وأنشدت الأبيات:

‏رأيتُكِ في حُلمي وعندك ساعةٌ

‏وأنتِ بها مشغوفةُ القلب مُعجبةْ


‏فإن صدق التأويلُ فهو لقاؤنا

‏على غبطةٍ من غير سوء ومَعتبَةْ


وقد رأيتك بعدها، نعم لم نجتمع، وليست تلك عادتنا، وقد كان ذلك يكفيني والله، وقد صدق التأويل وكنت مغتبطًا حقّ الاغتباط، ومسرورًا حق السرور، والحمد لله.

أكتب الآن قُبيل الفجر؛ وفي نفسي من معاني الشوق إلى رؤيتك؛ ما لا يستوفيها أن أقول: أنا مشتاق. أنا مشتاق.


المخلص لك للأبد أ. س.

**

ما رأيكم بهذه الرسالة، لا أدري لم يتفعّل عندي نظام النقد، مع أن الرسالة شاعرية ليس للمنطق فيها مكان، يقول أنه تأوّل الساعة ساعةَ وَصْل، فما باله كان وصلًا بلا احتماع؟ أن لقيها ولم يلقَها في نفس الوقت؟ هذا الرجل عجيب غريب، أترونه صادقًا أم واهمًا؟

الأحد، 24 أغسطس 2025

من ذكريات الجامعة ٢

 من ذكريات الجامعة ٢

لعلّي أشعرُ بنشوةٍ من الفَخْر حين أتذكّر أنني تخرّجت من كليّة الآداب في جامعة الكويت، لأنها اجتمع فيها علماء يضع لهم التاريخ جناحه.

أنشأ قسم اللغة العربية أساتذة في اللغة والأدب، فمن الكويت عبد الله العتيبي وعبد الله المهنا، ومن خارجها شيخ المحققين عبد السلام هارون وترأَّسَ القسم، ودرستُ عند د. عبد الله الغزالي وكان درس عنده، يحدثنا عنه يقول: "قرّر علينا في مادة النحو حاشية الصبّان. وكان يأتي قبل المحاضرة فيأمر الخادم بأن يعدّ له شاي كُشري ويجهّز غليونه، حتى إذا انتهى بدأت المحاضرة." المادة التي درستها عند د. الغزالي هي (الأدب المملوكي والعثماني).

كانت هذه الشُعبة من أعجب الشُعَب، كنّا أربعة طلبة وخمس عشْرة طالبة! قرّرَ علينا كتابه في الأدب المملوكي والعثماني، ولم يكن أحد من الطلبة يحسن القراءة السليمة غيري والشاعر رجا القحطاني، وطالبتَيْن لو شئتُ أن أسميهما لفعلت.

أنا لا أحبّ هذا الأدب، كبيره وصغيره، ولم أكن أعترض، ولكن لا يظهر علي الطرب، فأذكر أننا درسنا مقامةً للا أدري من، وانتهت المحاضرة، فسألني الدكتور والطلبة يخرجون: "ما رأيك؟ ألم أثبت لكم أنه ليس عصر انحطاط؟" فقلت له: "بلى، ولكن ليسوا كالحريري والبديع؛ أولئك مصاكّة!" (مصاكّة جمع مصكّ بتخفيف الصاد وتشديد الكاف: كلمة كويتية توصف لأعلى مراتب القوة).

وفي يوم حدث كلام عن الغناء، وأن الجيل الحالي لا يعرف الطرب الأصيل، ثم سأل الدكتور: "هل تعرفون ليلى مراد؟" فلم يُجِبْ أحد، فأخرج هاتفَه وشغّل مقطعًا لها، فكان الصوت مشوشًا حادًّا عتيقًا، فقالت إحدى الطالبات -وسأنقل ما قالت باللهجة على توجيه الجاحظ-: "وَعَلَيَّهْ شْفيها تَبْچي!؟" أي: وا شفقتي عليها، ما بالها تبكي؟. فأغلق الدكتور هاتفَه، وغسل يدَه من هذا الجيل.

وفي مرةٍ تكلّم عن تحقيق المخطوطات، وقد حقق الدكتور كتاب (الطراز المنقوش) وكتاب (الرياض المزهرة) ولكنّ الطلاب لم يفهموا ما المخطوطات، فجاء من قابل بصورة مخطوط من العهد العثماني، وأراهم إياه ثم قال: خالد تعال بجانبي. فجلست، وأعطاني الصورة وقال: هيا اقرأ. نظرتُ إلى المخطوط فإذا هو من أسوأ المخطوطات ترتيبًا وخطًا، فقرأت ما استطعت، وتلعثمت تلعثمًا منكرًا.

ومن الطرائف بعد الاختبار أنه استعرض علينا بعض الملاحظات، فقال: إحدى الطالبات لم تكتب الأبيات في سطر منفصل، تكتب قال الشاعر وجانبه البيت وجانب البيت التحليل! وأخرى عكس ذلك في التنسيق؛ كتبت العناوين بالأحمر، والأبيات بالأخضر، والتفسير بالأزرق! فقالت إحدى الطالبات: أنا صاحبة الحل، أريد أن يكون "كشخة"!

الأربعاء، 20 أغسطس 2025

رسائلي إليها (١)

رسائلي إليها

(١)

ها هي الحقيبة أمامي، الحقيبة التي أعطاني إياها رجلٌ كنت أستلطفُه في المقهى، عرفنا بعضَنا في هذه السويعات التي تضمّنا فيها جدران المقهى، كلّ منهمك في عمله وقراءته، ولا تواصل بيننا إلا التحايا.

في يوم الخميس الماضي دخلَ واجمًا، ولم يُسلّم، جلس ساعة يحدّق في حقيبة أمامه، ثم قام وجلسَ إليّ بعد أن ألقى التحية، ثم قال:

  • إني أعرفُك منذ زمن، فلا بأس أن أودعك هذه الحقيبة.

سألته ولا بدّ عنها، فأخبرني بأسلوب الأديب:

  • هذه بقايا، بقايا حبٍّ انتظرتُه سنوات، شيّدتْهُ الآمال، وما كنت أدري أن للآمال أياديَ من هواء، فلمّا كادَ أن يستقلّ انهار، انهار كلّ شيء. كنتُ لتعلّقي بهذا الحبّ أني كتبت رسائل وطويتُها في مكان آمن، أرجو أن تصل يومًا ما إلى من كُتبت إليها، فهاهي أودعها هذه الحقيبةَ بعد أن علمت أنها لن تصل أبدًا.
  • لماذا لم تمزقها أو تحرقها؟
  • وهنت يداي وخارت قوايَ دون ذلك، فرأيت أنني لو أعطيها رجلًا آخر، لا أعرفه ولا يعرفني، فيحفظها أو يمزقها أو يفعل بها ما يشاء.

هنا سكتّ فلم أبدِ أي ملحوظة، فإن الوجه الميّت الذي أراه أمامي لم يكن ليُنصت.

***

هكذا جلست، والحقيبة أمامي، تركها صاحبها كأنه بذلك يترك قطعة من نفسه، لعلّه أراد قطع علائق الحب القديم، حقيبة مما يسمى: حقيبة ساعي البريد، مصنوعة من جلد صناعيّ مقشّر في مواضع مختلفة، غير أنها تبدو عليها الجِدّة لمن لا يدقق، لها حزام بلونين بنيّ غامق وفاتح، يبدو لي أنها تكفي لكتابين بقطع متوسط تُغلق عليهما السحّاب بارتياح.

كانت الرسائل مطويةً ومعقودة بخيط، ثم طواها داخل ورقة وكتب عليها عنوانًا (رسائلي إليها). فضضتُ الخاتم، وحللت عقدة الخيط، لا أخفيكم أنني كنت أحسب هذه الرسائل كلامًا من كلام الحبّ المبتذل، فوجدتُها رسائل يقارن حسنُها رسائل الصابئ والرضي، إلا أنه أخلصَها في الحبّ إخلاصًا فقال في رسالته الأولى بخطّ واثق جميل، جمله متزنة، لعلّه نقّحها كثيرًا:

"عزيزتي،


إن الكتابة التي تدفعني للسلام؛ هي عينُها التي تُشعل الحربَ بعده، وذلك أني كلّما رأيتُ انحلالَ معقودِ مشاعري في هذه الأحرف المتراصّة؛ تذكرتُ ضعفي، وخوَرَ عزمي في أن أقفَ صلبَ العود، حتى أبدو كالورقة في مهبّ الرياح؛ ساعةَ أعود لهذه الأوراق الوِضاح، فما أرى انتصابَ ألِفاتِها، واستدارةَ هاءاتِها؛ إلا خلتُها سوادَ جَيْشٍ ذا أتراسٍ وأرماح، يتحينُ ثغرة من عينيّ ليصيبَ سوادَ قلبي، ولن يُتعبَ نفسَه في ظلمتِه؛ فإن شُعَل الشوق لتدُلُّهُ على مقاتلي بغيرِ عناء.


إن الأمر الذي أصارع فيه الوجودَ؛ ليس هيّنًا كما تظنين، والعجز الذي يرفع نفسي ويخفضها؛ أقوى من أن أدفعَه بقلبي الضعيف. وما هذا الليل العابس بأبغض إلى نفسي من الصبح الخائب، وما هذه الوحدة بأسوأ من اجتماع قوم لستِ فيهم. ‫حَسبُك بفتىٰ ينام على غمّ، ويصحو على همّ، وهو بين ذلك شاردٌ الذهن، حاضر الابتسامة، زائفُها، وحَسبُكِ بروحٍ تضطربُ وتهتزّ، ما أقلقها إلا الشوق إليك، ليس شوقًا يُحيي بماء الأمل، بل شوق يُميتُ بعَطَش اليأس. ثم اعلمي بعد ذلك؛ أن كلماتي التي تُجاري ما بقلبي لن تبلغ حقيقته.‬


لا أريد أن أُنكِرَ منكِ ما كنتُ أحبه فيك من عدم الاكتراث، لا تضعفي فتنجرفي خلفَ ما تظنينه رتبةً أعلىٰ، أنت عالية بنفسك؛ وهذا يكفيني، وإن الزينةَ على الحقيقة تتزيّنُ بصاحبتها لا تُزيّنها، وأنتِ في عيني -دون الناس- يُعجبني كل ما فيك، ولكن لا تفعلي ما لستِ مقتنعةً به. دُمتِ بهاءً للحياة.‬


المخلص لك للأبد

أ. س."

***

لا أدري ما الذي دفعه إلى هذه الشكوى الفلسفية، تكلّم حبيبتك بالفلسفة؟ عمومًا هي لم تقرأ هذه الرسالة، وإلا لما انتهت في يدي أنشرها لكم.

تكلم عن كتابته وما يعانيه فيها لكي يصل في آخر كلمتين أن يجعل لشوقه شُعَلًا تهتدي إليها الكتابة، وختم رسالته بعتاب لطيف، يبدو لي رجلًا لطيفًا، بالمناسبة لا أعرف اسمه، فقد فجأني في المقهى وانشغلت عن سؤاله..

حرف الألف لعله أحمد؟ أو أسامة؟ والسين؟ سالم سليم سلامة؟ لا أعلم ولن أفتي.

الاثنين، 18 أغسطس 2025

من ذكريات الجامعة

 من ذكريات الجامعة

دخلتُ الجامعة أكبُرُ دفعتي بثلاث سنوات، وذلك أني حُصتُ حَيْصةً قبلَها، ودُرت حول نفسي كأنّي يوسف باحويرث في حلبات "ريدبول"، إلا أنني مُجبَر لا بطل، وهو بطل لا مُجبَر، فدخلت كليةَ التربية الأساسية، ثم حسّنتُ نسبتي في الثانوية لأدخل كليّة الآداب في جامعة الكويت.

بداية جديدة في الجامعة، دخلتُها بنفسٍ قديمة تركن للكَسَل بلا دَعة، والتسويف بلا منفعة، وليس موضوعنا اجتهادي في الدراسة وإنما بعض الذكريات اللطيفة، والفوائد النادرة، ولعلها تكون سلسلة مقالات أو لا تكون؟ هذه هي المسألة.

في مادّة (النقد العربي القديم) عند د. حمد بن عبيد العجمي، كانت طريقته أن نقرأ بابًا من كتاب محمد مندور (النقد المنهجي عند العرب) وما يقابله في كتاب لعيسى العاكوب نسيت اسمه، ثم نعود ونكتب تقريرًا على طريقة (استجابة القارئ)  وهو نقد يعتبر القارئَ مركزَ جدوى العمل المكتوب، فلا وجود لأي ادَعاءٍ يدّعيه الكاتب في عمله حتى يكون مُبرهنًا باستجابة قارئ النص على شكل هذا الادّعاء.

عمومًا.. الأمر كان أبسط لأننا طلبةٌ لا نكاد نقيم تقريرًا مكتمل الأركان، فطلبُ (استجابة قارئ) أمر متفائل جدًا، فلذلك كان د. حمد العجمي يكتفي بأن تذكر موافقتك أو معارضك، وعلة الموافقة أو المعارضة.

كان محمد مندور يعتمد على النقل، فكان مستوًى صعبًا، وعيسى العاكوب على آرائه أو تأمَلاته، فكان المستوى السهل، وصاحبكم شعر أنّ هذا تحدٍّ فقمتُ وفوّقتُ قوسي إلى محمد مندور رحمه الله، في موضوع (قدامة بن جعفر) ولعنجهيّتي -وأنا إذ ذاك لم تظهر لي لحية بعد، ولم يأخذ الصلع والشيب من ناصيتي- قلت في مقدمة الاستجابة وهاهي أمامي:

"وقفتُ في هذه الاستجابة بين مندور وقدامة بن جعفر، ورجّحتُ بعضَ آراءِ قدامة فيما يخصّ تأصيله لعلم النقد، وفسّرت موافقتي فيما وافقت، وبيّنتُ معارضتي فيما عارضت." الله أكبر.

لا يقف العجب هنا، ولا أدري كيف احتملَ د. حمد رقاعتي وجهلي وقد كتبت بعد ذلك:

"بدأ مندور مبحثه في قدامة بن جعفر بقوله: "والناظر في كتاب قدامة يجد الاتّجاه البلاغي الشكليّ الذي انتهى بذلك العلم إلى التحجّر" ص٦٧. وقد بيّنت لي هذه الافتتاحية منهجَ مندور في النقد؛ فهو ينتقد نقدًا ذاتيًا يستهزئ فيه بصاحب النصّ المنقود إذا لم يوافق آراءه، وكذلك فعل، وقد كنتُ أنوي مجاراة أسلوبه النقدي؛ فوجدتُ أني سأستنفد مخزونَ الشتائم [!] والاستهزاء الذي لديّ، فآثرتُ الطرح الموضوعي على ذلك." شكرًا لك أنك آثرت الطرح الموضوعي.

أنتم تحسبون أنني وازنت بين كلام محمد مندور وقدامة بن جعفر؟ لا، انتقدت الاثنين!

بدأت أولًا بقدامة بن جعفر وتعريفه للشعر، فقلت إنه تعريف ناقص، فقوله: قول موزون مقفى دال على معنى" ينقصه: على ما استعملته العرب، لأن تعريف قدامة سيدخل فيه ما ليس بشعر كالنظم العلمي، والشعر الحر، ثم كانت الصدمة الصادمة، وأتيت بدليل، أوردت شعرًا موزونًا باللغة اليابانية! لا أدري ولكن أشعر أنني أصبحت نُكتة في القسم في ذلك الوقت، استشهدت ببيت من منظومة في الثقافة اليابانية لهشام عمر، ونسخته بالأحرف اليابانية كما هو، وكتبت طريقة نطقه أسفله! مدللًا أن هذا شعر موزون له معنى، ثم استمرّ التقرير كاملًا في مخالفة محمد مندور رحمه الله بغض النظر عمّا قاله، المخالفة لأجل المخالفة.

المهم، أذكر الدكتور أعطاني درجة كاملة من أربعة، وقال لي شيئًا من قبيل حسّن من أسلوبك، ولا أظنني انتصحتُ حينها؛ فقد سمعتُها منه مرة أخرى بعد سنتين في مادّة الشعر الجاهلي عندما شتمت طه حسين في الاختبار، ولكنّي انتصحت في الثانية، متمثّلًا بيت مزرّد بن ضرار:

تبرّأتُ من شَتْمِ الرجالِ بتَوْبةٍ

إلى اللهِ منّي لا يُنادى وليدُها

الأحد، 17 أغسطس 2025

هاجَر

هاجَر

في أعوامي الأولى في كلية التربية الأساسية أخذت مادة (التربية الخاصة) عند الدكتور هاني القطان. في أوّل محاضرة أراد أن يختبرنا، أن يختبرَ الإبداع الذي عندنا، فرسم على اللوحة قوسًا مفتوحًا لأعلى، وقال: أكملوا هذه الرسمة. وبعد دقائق انتهينا، انقسم الطلبة بدءًا إلى ثلاثة أقسام: قسم بدأ مباشرة باستنباط رسمة من هذا القوس، وقسم ضحك وحاول التملص ولكنه رسم في النهاية، وقسم لم يحاول.

بدأنا عرض رسماتنا، غلب على رسمات الطلبة رسم وجه يضحك، فقال الدكتور: من رسم وجهًا يضحك فهذا ليس عنده إبداع. ثم قدّم آخرون وهم أقلّ رسمات لمئذنة مسجد، وأرجوحة وغير ذلك، فقال: أنتم مبدعون، وهكذا نجد أنكم انقسمتم.. فرفعت يدي وقدمت له رسمتي، كانت مبخرًا! سألني في البداية: كيف؟ فقلت: إذا نظرت إليه من جانبه ستراه مقوّس الأعلى. فقال: بعضكم ليس له إبداع، وبعضكم مُبدع، وزميلكم هذا لديه أصالة!

منذ تلك اللحظة وأنا أنمّي هذه الأصالة، فأحاول الخروج عن الأفكار الأولى التي تطرأ لي حين أكون بصدد عملٍ إبداعيّ، فأسمّي قناتي على اليتيوب: مداك العروس. وأترك تسميتها بمسميات الورق والكتابة وللحبر، كناشة مداد وغير ذلك، ثم أحتاج إنشاء قناة على التليغرام للمختارات الشعرية فأترك تسميتها المختارات وأسميها: المستجاد المستعاد، وهكذا.

فمما أممتُ فيه الأصالة اختيار الاسم الدي أشبّب به، فإن ليلى ولبنى وسلمى وأسماء أسماء جميلة؛ ولكن إذا أوردتها فارقت الأصالة التي وسمني بها الدكتور هاني، فاخترتُ اسمًا غريبًا على الشعر، اسمًا لم يرتبط بالرومانسية، اخترت: هاجَر.

هاجر؟ أهي امرأة حقيقيّة أم نسجُ خيالك؟ هذا السؤالُ يردُني كثيرًا، وأحسبه سؤالًا لا فائدة منه، بل لعله يُفسدُ عليك وعليّ، فإنها إذا كانت حقيقية وأنكرت أكون كذبت، وأفسدت عليك شعور الحقيقية، وكذلك إذا لم أكذب، وإن لم تكن حقيقية وصدقتك القول أكون أفسدت عليك وإذا كذبت جمعت السيئتين كذلك. فهذا سؤال لا فائدة منه ولا عائدة.

ما الذي حدث عندما اعتمدت الاسم في شعري؟ حَسب الناس أنه اسم شاعريّ، فمرّ بي كُثُر يوردونه في أشعارِهم، ولا أدري أهم حسبوه كليلى وسلمى، أم أنهم صادقون ووجدوني مهّدت لهم طريق التصريح؟

وقد ارتبط بي الاسم جدًا، لأني أمضيت سنوات أورده في شعري، فقال أحدهم:

كأني خالدُ الحمدانُ يُلفىٰ

بهاجَرِهِ أخا قلقٍ عميدا


فيصبح والهوى يجني عليهِ

ويُرهقهُ إذا أمسىٰ صَعودا

(ملاحظة: أرى أن يقال: خالدُ الحمدانَ، لأن أل هي آل فيكون حمدان مضافًا إليه علامة جره الفتحة لأنه ممنوع من الصرف، خالدُ آلِ حمدانَ)

ونُسبت إليّ أبيات لم أقلها، كهذه الأبيات وهي لحذيفة العماري:

أرى هاجَرًا في كلّ شيءٍ تلوحُ لي

ففي كلّ لمحٍ بعدَها أقتَلُ الداءِ


أأقصِدُ شُربَ الماءِ عطشانَ أبتغي

رواءً فيبدو طيفُ هاجَرَ في الماءِ؟

وحذيفة أشبه الشعراء أسلوبًا بي، إلا أنني لا أقول: أقتَلُ الداءِ.

وقد قلّبت الاسمَ كثيرًا وصرّفتُه في كلّ وجهٍ بحسب ما يأمرُ وزنُ البيت، فقلت في هاجر:

ولقد علمتُ بأنّ عمري ضائعٌ

وبحُبّ هاجَرَ لا محالةَ فانِ

وجعلتُه هُجرى فقلت:

قيل لي استبدلْ بهُجْرىٰ غيرَها

‏بئسَ رأي الناس في الحب البَدَلْ

وقلت هُجَيْرة:

أناديها هُجَيرةَ وهي أنأى

من النجم الذي قسمَ السماءَا

وقلت في هاج مرخَّمًا:

يا هاجُ كم حاجةٍ قد بتُّ أكتمُها

عن الذين أصافيهم وكم كَمَدِ

وقلت في هَجْر:

إيّاكِ يا هَجْرُ فؤادي أمّا

لم يلتفتْ مدحًا جنى أو ذَمّا

ما الذي أنصحكم به معشرَ الشعراء؟ أنصحكم أولًا ألا تكتبوا الغزل، ما لكم وله؟ فإن أبيتم، فاختاروا اسمًا، نحو: أسماء، نجلاء. فهذه الأسماء سهلة التصريف: أسماء، أسما، أسمُ، أسمَ، أُسيماء، أسيما، أسيمُ، أسيمَ.

فتستفيد بذلك أنك لا تتعطل في قول بيت على أي بحر، فتقول على البسيط:

رأيتها حين طالَ الليلُ في حُلَلٍ

فقلتُ أسماءُ لكنّ الخيالَ مضى

وتقول على الطويل:

وإن أسَيْمًا حينَ بانت حمولُها

لكالظبي ريعتْ في الكناسِ فرائصُهْ

وتقول على الوافر:

إذا ما جئتَ أسما في صباحٍ

فلا تنظر إليها يا رسولُ

وإما جئتَها والليلُ داجٍ

فمبسمُها لباغيها دليلُ

وتقول على الخفيف:

يا أسمياءُ إن قلبي خَفوقٌ

فاجعليه ما بين كفّيكِ يهدا

وتقول على المنسرح:

والعينُ من حبّها لها نُطَفٌ

تكتب فوق الخدّينِ أسماءُ

وتقول على الرمل:

عادني ذكرُكِ يا أسمُ ضُحى

فكتمتُ الحبّ حتى عن ظِلالي

فالظلالُ واشياتٌ بالذي

بتُّ أخفي من شُرودي واعتلالي

ونقول على الكامل:

ثقُل الهوى بك يا أسيما حقبةً

فهجرتِ فهْوَ كأنه ما كانا

ونقول على السريع:

إنّ أسما حينما جُلِّلَتْ .. بجمالٍ حُجِبَتْ عن عيوني

فاعذلوني في هواها زمانًا .. فإذا أيأستُكم فاتركوني

ونقول على المجتث:

القلبُ عند أُسَيْما .. معلّقُ الآمالِ

فليسَ يسمعُ ماذا .. مقالةُ العُذالِ

ونقول في المتقارب:

رأيتُ لأسماءَ في الليل نورا

كشمس تضيءُ ضياءً كبيرا

سوى أن ما بيننا من دعاءٍ

دعاءُ الفرزدقِ يعني جريرا

ونقول على المديد:

إنما أسماءُ ياقوتة .. أُحصِنَتْ في قعر بحرٍ عميقْ

كلّما مرّت على قلبِهِ .. غادرتْه كالجناح الخفوقْ

ونقول على المقتضب:

أسْمُ إنني رجلٌ .. الكلامُ يُسعدُهُ

أسمعيهِ عن عُرُضٍ .. فالسكوتُ يُجهِدُهُ

وعلى الرجز، وهذا البحر يصلح فيه كلّ الكلام:

ناديتُ والحبُّ بقلبي يسْمو

أسما أُسيماءُ أُسيمُ أسْمُ

وعلى الهزج:

جميلُ الذِكرِ يا أسماءُ في الدنيا لذو حُسْنِ

فعودي للذي يهواكِ عودَ الطيرِ للغُصْنِ

وعلى المضارع، على المضارع؟ سأتركُه لكم، وأصعب شيء تركت، السلام عليكم.

الحَلُّ لكل شيء

 الحلُّ لكلّ شيء حين يجلس وحدَه رجلٌ كثير التفكير والقلق تصل به أفكارُه إلى مُعضِلاتٍ لا حلّ لها، ولا يرتاح باله حتى يبلغ بعَقْدِه الأفكارَ ...