الخميس، 6 نوفمبر 2025

رأي ثالث في قصيدة حسن صميلي

 رأي ثالث في قصيدة حسن صميلي

لستُ أبدي رأيًا في شعرٍ لم يطلبه شاعرُه، فإني أغنى الناس عن قولة: "مَنْ طَلَبَ رأيك؟". ولكنّي وجدتُ الناس ماجت وهاجت في قصيدة نشرَها حسن عبده صميلي، بعدما أثنى عليها عبد الله بن سليم الرشيد، فقلت أنظر فيها من غير مُشاتمة، ومن غير تراشق بين حزبين: حزب الحداثة وحزب التقليديين.

وقبل أن أبدأ أريد التنبيه إلى أمر: بما أني لم أدخل براية حزب التقليديين، هذا يعني أنني لست متحاملًا حزبيًا على الشاعر. والأمر الآخر أن كلّ إنسان يعرض شعرَه على الملأ فهو معرّض للنظر فيه، وكل إنسان يُتوقّع أن يخطئ.

(تنبيه آخر: رأيي لا يهمني شخصيًا ليهمّ غيري، ولكن مع الخيل يا شقرا.)

قال حسن صميلي:

"خطيئتي مثل كوخٍ ضَلَّ في المدنِ"

شبّه خطيئته بالكوخ، ووجه الشبه الضلال، أفهم صورة الكوخ الذي ضلّ في المدن أنها مدينة كثيرة المباني، ثم بين تلك التكدّسات كوخ صغير لا ينتبه إليه أحد، هذا المعنى، غير أن إسناد الضلال إلى الكوخ لا أراه مناسبًا (ومن أنا لكي أرى؟ لا أحد فقط أتكلم) لا أراه مناسبًا لأن المبنى -كوخًا كان أو مبنى حجريًا- ليس له غاية يضل عنها، بل الثابت الموجود بالنسبة للكوخ هو موضعه الذي هو فيه، بعكس من يدخل مكانًا فيضلّ فيه، لأن موضعه ليس ثابتًا يريده بل يرد ثابتًا آخر وضلّ عنه.


‏"تُؤَرْجِحُ اللغةُ العمياءُ

‏حفنتها بين الجياعِ

‏تنادي سَوْأَةَ الوهَن"


اللغة العمياء تؤرجح حفنةً من طعامها أمام أعين الجياع إليها، وتنادي سوأة الوهن ليفوز بها، فهمت الفكرة العامة ولكن كذلك إسناد الأفعال والمضافات هي التي تتوِّهني مرةً أخرى، فقوله أنها لغة عمياء، استجلبها لكي تنادي على سوأة الوهن، فإنها لو كانت مبصرةً لما احتاجت النداء ولذهبت مباشرةً إلى سوأة الوهن، هنا صوّر اللغة صورةً قبيحة تترك من يحتاجها وتُعطي الوهن، وليس الوهن ذاته بل سوأته، المعنى مفهوم ولكن الكلمات تحتاج تحميلَها ما لا تحتمل ليظهر المعنى.


‏"على المشانقِ

‏كان الغيب ينفثنا مغارةً

‏ثم يهذي :

‏كنتُ

‏لم أَكُنِ"


المعنى مفهوم، وهو الشك بالمصير، لا ندري ما سيكون بعد شنقنا، ولكن الإشكال عندي كالعادة ليس فهمَ المُجمل، بل وجه دلالة الألفاظ، أنا أتعمّد إلغاء ألفاظ الشاعر لأفهم، وهذا لا يصحّ من السامع ولا يُقبل، هنا في قوله: ينفثنا الغيب مغارةً. لو قلنا أننا نحن الذين نكون مغارةً بنفثه، أو قلنا أن نفثه هو مغارة في كلا الحالين أحتاج أن أقرأها: ينفثنا فندخل مغارةً، ينفثنا فنسقط في مغارة، ينفثنا فندخل في خيالها في مغارة الشكّ.


‏"وكان ربُّ الخطايا السُّمْرِ

‏يأخذنا لوجهةٍ

‏ليس فيها لثغةُ الوطنِ"


رب الخطايا السمر، صاحب الخطايا المُشكلة، لم يقل السود لأنها ليست خطايا محضة، ولكن هل السمار يتوسط البياض والسواد؟ من رأيي الشخصي أن الألوان لها أبعاد والسمار بالنسبة للبياض لا يتجه إلى السواد فما يتوسط بينهما، ربما يتجه إلى الاحمرار أو الاصفرار.

رب الخطايا السمر يأخذنا لمكان ليس فيه لثغة الوطن، أفهم من هذا البيت أنه يأخذهم لمكان يكون الوطن فيه كاملَ الصحة، لا تعثّر فيها ولا نكد.

ومشكلتي الآن مع هذا البيت أنني لم أستطع ربطه ولا فهم جملته.


‏"أنا وجوديُّ هذي النارِ

‏أصلبها على السقوفِ

‏ولا سقف سوى حَزَني"


إن كان حسن صميلي يعني بالوجوديّ المذهب فالفلسفي فأحتاج معرفة أبعاده قبل الخوض في هذا البيت.


‏"تَخَفَّفَتْ 

‏فِيَّ أسماءُ البلادِ 

‏كما تَخَفَّفَتْ وردةٌ من خيبة الفنَن"


هذا واضح المعنى والمبنى، لا أجد أني أستشكل شيئًا فيه، ويبدو لي مفسرًا للقصيدة.


"‏الشارعُ الآنَ

‏مثقوبٌ بمن وصلوا قبل الجهاتِ ،

‏ومن ناموا بلا سكنِ"


الشارع مثقوب، غير معتاد أن يثقب الشارع، ولكن الخيال يُسعف، فالشارع ثقبه من وصلوا قبل أن تصل الجهات، هنا عثرة لا أستطيع تخيلها وهو وصول اما يوصل إليه أعني الجهات، بعض الصور غير المعهودة يمكن تخيلها بشكل أو بآخر، ولكن حين تخالف تعريف الشيء هنا يتعطّل الخيال، فالوجهة تعريفها أنها الغاية التي يوصَل إليها، فحين نقول: لم تصل الوجهة، هنا يحدث تناقض لا سبيل إلى حلّه.

والشارع مثقوب بمن ناموا بلا سكن، واضح أنهم من لم يصلوا.


الإشكال في القصيدة حقيقةً ليست أن قائلَها ينتمي لتيار حداثة أو ما شاء المقلَدون تسميته، الإشكال في هذه القصيدة وفي كلّ شعر يُقال هو إشكال واضح بيّن، لا يختصّ به تيّار دون آخر، حتى من يدعي أنه متّصل بشعر الجاهلية أو شعر الأمويين، وثار في وجه الشاعر حسن صميلي وثار في وجه الناقد عبد الله الرشيد، يسقط في نفس الحفرة، كل شعراء عصرنا يؤتون من جهلٍ ممتد علينا كلنا بلغة العرب، بل قل بإحساسنا بدلالة ألفاظها على التحقيق، لا نعرف ماهيّة اللغة، وكيف تُقال وكيف تُفهَم، كل الشعراء واقعون تحت هذا الجهل، ولا أبرّئ نفسي إلا أني أعترف بتقصيرها.

الأربعاء، 5 نوفمبر 2025

رسائلي إليها (٦)

 رسائلي إليها (٦) 

٢٣ ديسمبر

عزيزتي،

بَعُدَ عهدي بآخر رسالة، لم تخمد نار الشوق، ولكن أوهىٰ مِعصمي أن يكتب إليكِ علمي أن هذه الرسائل لن تصل، هي رهينة المحبسين.. قلبي ودرج المكتب، لا فرق إن كتبتُها أو كتمتُها.


هذا الفراقُ.. فراق التسعةِ أشهر، كان أولُها تشاغل، وأوسطُها تَصابُرُ، وآخرُها جَزَع. هكذا، وإن امرءًا يبتسم بعد ذلك لجَليد، فابغي ليَ الحُسنىٰ بوَصْلٍ يسقي ذوابلَ نفسي، فنفحةٌ منكِ تُحيي بساتينَ الحياة فيها.


عزيزتي.. في أحلك زوايا غُرفتي ظُلمةً، غصصتُ بذكرىٰ عابرة في حِساب الأيام، راكزةً في نفسي أبدًا، لقد أرِقتُ وما همّي سواك، فسلّمَ اللهُ وجهَكِ الأنور الأزهر، وقلبَكِ الميمون الأطهرَ، أحبّك.. وأحبّ أني أحبك.


أكتبُ إليك والفجرُ مُطِلٌّ بتباشيرِهِ، وعُقَدُ الغمام محلولة عن مَطَرٍ لطيف، كنتِ أولَ خاطر، فجرتْ دعوة باسمك إلى السماء، لتكون على قلبِكَ ألطف من هذا المطر.


قبل أيام كنت أمشي في بستان، وقد ظللتني شَجَراتٌ ألقت عليّ شُعاعَ الشمسِ كليلًا، قِطعًا خافتةً كفتائل قاربت غرقها في شموعها، وهبّ النسيم عليلًا على السنابل، فهزت رؤوسَها شَجىٰ، وعلى الماء فاضطربَ كأنّه مُجهِشٌ يُمانِعُ عَبْرَتَه.. وددتُ حينَها لو كنتِ معي، لأمسك يدَكِ، فأقبّلها، وأفدّيها، ثمّ أضعها على كبدي فيسكن رَجفانُها، وعلى قلبي فيهدأ خفقانُه، وعلى عيني فتبرد، ليتك معي.


أ.س

الثلاثاء، 28 أكتوبر 2025

رسائلي إليها (٥)

 رسائلي إليها (٥)

هذه رسالة أرّخها العاشق بتاريخ ١١ أغسطس، وتظهر فيها رشاقة قلمه الأدبية:


عزيزتي،


كم بيننا من قُرىٰ وجُدُر، وقومٍ نُكُر، مستزئرينَ أن يفرّقُوا بين المرء وإلفِه، مستأملينَ أن يودي حَتْفَ أنفِه، لو استطاعوا داخلوا نفسَهُ فأتلفوا حُشاشاتِه، يؤذيهم رَسيسُ الحُبّ وقد رأوا تساقُطَ أوراقِه، ويَغيظهم شعشعانُ نورِهِ بين فُرُجاتِ الكَمَد، يتفرّسونَ فيه لَحْنًا يهديهم، وسَقطةً تعدلُ رأيهم، وهو يتجلّد ويتجلّد، فيحبسُ دون الشامتينَ مَصونَ دمعه، ويبتسمُ والحُزْنُ ينهشُ بين كبده وقلبه، حتى إذا هدأت الأصوات، وأسدلَ الليل ستائر السكون، وهدهدت السماءُ الأرضَ؛ اختنق بعبرتِه، وخفقَ قلبُه، ونطقَ باسمِكِ هامسًا، ثم نطق به مرةً أخرىٰ، وما زال يعاودُ ذلك بين كلّ شهقتَين، حتى يغلبَهُ البكاء، ويُسكته النحيب.


أنا كثير التأمّل والتفكّر، كثير التحليل كما يُقال، كلّ بابٍ أدخلُهُ يخلُصُ بي إلى غيرِه، قضيتُ حياتي هكذا، وعندما بلغتُ باب الحُبّ، وقفتُ أمامَهُ لحظة، هي لَحْظة في العُمُر، سَنةٌ في الشعور. وأخَذَتْ الأفكار تَوالىٰ عليّ، كأنّي ممسكٌ كتابًا تُقلّبُ الريح صفحاتِه، تقلّبُها بسرعة، وعيني تلقط جملةً ثم تُقلب الصفحة، فتلقطُ جملةً أخرى فتقلب؛ وهكذا على غير اتساق، أو كأني أمشي على طبقات أرض هشة، فكلما وقعتُ على أرض انخسفت بي إلى غيرها، فقبضتُ على مقبض الباب فإذا هو دافئ، كأنّي قد فتحته من قبل، ثم دخلتُ، وألقيتُ عصا الترحال، ووالله ما في نفسي التحوّل عن هواكِ إلى هوىٰ سواك، ولا لعيني نفاذُ في جمال لم يكن له حظ منك.


أديري ناعستَيْكِ في صفحة الليل؛ لتَرَيْ نبض أشواقي في نجومِه، يا جمالًا رأته عيني مرة؛ فوعاه قلبي إلى الأبد. 


وسلامٌ على ذلك القلب المَخْموم، ورحمة الله على تلك الروحِ الطاهرة، وبركاتُه على ما طيّبَ الأردان.


متيّمك

أ. س.

الثلاثاء، 21 أكتوبر 2025

رسائلي إليها (٤)

 رسائلي إليها (٤)

هاتان رسالتان من رسائل أ.س في الأولى تظهر حيرته، والفاته إلى نفسه وفي الثانية تظهر بوادر يأسه من حياته، ولذلك فصلهمها إذ كتبهما في يومين متتالين.

-

١٣ سبتمبر

عزيزتي،


تذكّرتُكِ.. وما أكثر ما أتذكرُ شعوري الأول، شعوري المتردد عندما رأيتك أول مرة، والذي بقي مترددًا حتى انقطع اجتماعنا اليومي، فبتّ متحسرًا أنني لم ألتفت لهذا الشعور المتردد.


لو كنتُ أطعتُ قلبي مرةً فيما يُحِبّ، كيف ستكون حياتي؟ لقد أهلكتُ قُوايَ بالتعقّل المفرط، والحذر المستريب، حتى خرجتُ خاسرًا في كل معاركي، الهارب من معاركه خاسرٌ حيّ، وهو أسوأ ممن حاول.


أنا أحبّك.. ولم يبقَ في يدي خيطٌ أتوصل به إليك، أغلقت دوني السبل، ووضعت السدود، وهذه السدود لا تزداد إلا غلظًا، لا أحب هذا الموقف، أنا حائر لا أدري ماذا أصنع، متوقف بين إقدام وإحجام، وشد وإرخاء، وعزم ونكوص، أريد إشارة منك تجعلني أندفع اندفاع نهرٍ أزيلت من أمامه صخرة حالت دون جريانه.


رسائلي بدأت تتقلص، وبدأت تلبس لغة بيضاء لا فن فيها، لم تعد نفسي تحتمل توليد المعاني وإسباغ الألفاظ الرائقة، ملّت كل شيء.. تركت كل شيء.. إلا حبك! والله لا أدري ما الذي يغذيه، ولكنه قوي جدًا لم تنفصم منه عُروة، ولا انحلت عقدة.


مُحبك المشتاق

أ.س

-

١٤ سبتمبر

عزيزتي،


ما لي أرىٰ كل عاشقٍ نالَ حظوةً عند معشوقه، وحاز رضاه، وقرّ به عينًا؛ وأنا كل يوم أتقطعُ حبًا، وأتضرم شوقًا، ثم لا يكون منك شيء؟ إني لأشك بذلك اليوم الذي كشفتُ لك فيه عن مكنون قلبي، هل كانت تلك المحادثة فعلًا؟ هل محادثتي لك في شهر نوفمبر قبل سنتين كانت حقيقة؟ عندما وصفت لك نفسي فقلت لي: أنت ذلك الأسمر؟ نعم أنا ذلك الأسمر، وأحسبني ازددت اسمرارًا للذي لقيتُه من غم وهمّ يغدوان علي ويروحان تحدوهما شدة التفكير بك وبحبك الذي أغلق عيني عن كل لذائذ الدنيا.


والله إني أبحث كما يبحث منتقش الإبرة من الأرض عن كل صورة تشبهك، وكل شيء له علاقة بك،  لعلي أهدأ قليلًا.. ولكن ذلك لا ينفع!


أنا لا أطيق، ولا صبر عندي، لا أدري كيف صبرت على هذا الشيء الذي أستحي أن أسميه حُبًا!


لن أنويَ السلوّ، كما لم أنو الحبّ، متى ملكتُ زمام نفسي أصلًا ؟! 


مع السلامة


أ.س

الأحد، 19 أكتوبر 2025

قاعدة في فهم الشعر

 قاعدة في فهم الشعر

في الشعر لا تعارض العلماء القدماء، ولكن ادرس كلامهم وتفهّمه.

لأنك إذا عارضتهم فليس في علم الشعر وحيٌ تعود إليه، بل آراء، فإذا رددت كلامهم أصبحت ولا آلة عندك في فهمه.

وأعني بالقدماء أبا عمرو والأصمعي والكسائي وسيبويه والمبرد وثعلب وطبقتهم.

وقد نفعتني هذه القاعدة في فهم كثير من الشعر، ولو كنت أردّ كل كلمة لم أفهمها، لفاتني كثير من العلم.

فمن ذلك قولهم إن أهجى بيت هو قول جرير:

فغض الطرف إنك من نُمير

فلا كعبًا بلغتَ ولا كلابا

فعشت زمنًا أبحث عن إجابة لعلة تقديمه، وسألت فلم أجد شيئًا، فممن سألت من قال: وضعَهم لأنه قال لم تبلغوا كعبًا ولا كلابًا واسما القبيلتين فيه مهانة. ولم أقتنع بهذه الإجابة، حتى علمني ربي أنه هجاهم هجاءً مُقذِعًا، قال عمر رضي الله عنه للحطيئة: اجتنب المقذع من الهجاء. فقال: وما المقذع؟ قال: تفضيل قوم على قوم. فهذا أول خيط الفهم أنه هجا بني نمير بن عامر بأشدّ أنواع الهجاء. ثم نظرت فوجدت الراعي قادرًا على ردّ هذا البيت، بالغض من أبناء عمومتهم بني كعب بن ربيعة بن عامر وبني كلاب بن ربيعة بن عامر، ولكنّه بذلك سيُشعل فتنة بينهم، فآثر الانهزام والسكوت عن هذا البيت. ودلّني ذلك إلى المغالبة في الهجاء، فهي أن يقول الشاعر بيتًا فخرًا أو هجاءً فينقضه عليه خصمه، فإذا لم يستطع نقض الهجاء غُلِب. ورأيت أن الفرزدق وجرير ما زالا يتعاركان ولا يهتدي أحدهما إلى الإحاطة بصاحبه حتى يغلبه. فكان هذا الفهم الذي هداني إليه ربي فاتحةً لفهم كثير من الشعر.

فمما أخبروا أن ليلى الأخيلية غلبت النابغة الجعدي، استنكرت ذلك وأكبرته، ولكن سلّمت به، وعرفت العلة بعد ذلك حين فهمت تغليب جرير، فقد فعلت ليلى مثل ما فعله جرير، ولكن ردها كان نقضًا لقول النابغة:

ألا حييا ليلى وقولا لها هلا

فقد ركبت أيرًا أغرّ مُحجّلا

هلا كلمة تُهدّأ بها الفَرَس عند الضراب، فقالت ليلى:

تُعيّرني داءً بأمك مثله؟

وأي حَصان لا يُقال لها هلا؟

فكان ردّها أن الحصان غير المعتادة ستكون خائفة فسيُحاول أهلها تهدِأتَها، فجعلت النابغة بين نارين، إما أن يقول أن أمه لا يُقال لها هلا وهذا معناه أنها ليست بحصان، أو يُقرّ بذلك فيعود قوله الأول على أمه كما هو على ليلى! فسكت عن الثنتين كما سكت الراعي، فغلبته ليلى.

مَظهَر أخير من توقير كلام السلف وعدم معارضتهم؛ أني قرأت خبرًا أن الأصمعي قرأ شعر الحطيئة على أبي عمرو، فبلغ قوله:

وغررتني وزعمتَ أنّكَ

لابنٌ بالصيفِ تامِر

أي خدعتني وزعمت أنك صاحب لبن وتمر، فصحّف الأصمعي فقرأها:

وغررتني وزعمتَ أنك

لا تَني بالضيفِ تامُر

أي خدعتني وزعمت أنك لا تفتر عن الأمر بإكرام الضيف. وتصحيف الأصمعي منطقي، لأن رسم (لابن) كرسم (لاتن) فقال أبو عمرو: تصحيفك أحسن من بيت الحطيئة. فاستنكرت أن يكون تصحيف للأصمعي أشرفَ من بيت للحطيئة، وبعد وقت قرأت قصيدة الحطيئة، ووجدت أن البيت لوحده هكذا سيكون نعم تصحيف الأصمعي أشرف وأحسن من بيت الحطيئة، لأن فيه شكوى، ولكن البيت مع ما بعده أفضل وأحسن وأعلى،  ويحول المعنى من الشكوى إلى الاستهزاء ، قال الحطيئة:

وغررتني وزعمتَ أنّكَ

لابنٌ بالصيفِ تامِر

ولقد صدقتَ فهل خشيتَ

بأن تدور بك الدوائر

فكذّبه أولًا، ثم صدّقه وقرن تصديقه بوصفه بالبخل، وحاصره، فصدق الإمام أبو عمرو وأحسن الأصمعي وأحسن الحطيئة.

الثلاثاء، 23 سبتمبر 2025

تِتْرِس Tetris

تِتْرِس Tetris

لو سئلتُ سؤالًا غير السؤال المعتاد: "من أفضل شاعر عندك؟" وقيل لي: "ما أفضل لعبة فيديو عندك؟" لكانت إجابتي أكثر طرافة: Tetris.

لا يمكن أن تجد إنسانًا لم يلعب تيترس، هذه اللعبة موجودة على كل جهاز يعمل بالبرامج؛ الحواسيب وأجهزة ألعاب الفيديو، والهواتف، وشاشات التلفاز، وتستطيع وضعها حتى في الميكرويف!

قصة تطوير اللعبة بدأت حين كان مهندس برمجة يريدُ اختبار شيء في حاسوبه، حدث ذلك عام ١٩٨٥م في الاتحاد السوفييتي، والمهندس هو ألكسي باجيتنوف.

جلس ألكسي أمام حاسوبه (إلكترونيكا ٦٠) وحاول اختبار شيء فيه، وكان قبلها اشترى لعبة بينتومينو، وهي لعبة فيها قطع ملونة، ترتبها في محيط معين، على شكل مطلوب منك. فقال: لم لا أطور لعبة تختبر الحاسوب بفكرة أبسّطُها من البينتومينو. فقلل أشكالها من ١٨ شكلًا إلى سبعة، وكل شكل عبارة عن ٤ مربعات متلصقة، مقلّبة بكل شكل ممكن، ولأن مادّتها من أربع مربعات صار اسم اللعبة «تيترا» وهي كلمة يونيانية تعني أربعة، ورياضة: التنس! ما علاقتها بالتنس؟ لأن باجيتنوف كان يحب هذه الرياضة، فصار اسم اللعبة: تيترس Tetris.

اللعبة فيها سبعة أشكال سأصفها لك باعتبار أنك لا تعرفها، وأنك تقرأ المقالة في جزيرة معزولة في المحيط الهادي ولا تستطيع البحث عن صورة لها:

الشكل الأول: أربعة مربعات متراكبة، فتنشئ عصًا. ولونه سماويّ.

الشكل الثاني: تأخذ مربعًا وتجعله يمين المربع الثاني، فيكون شبه منجَل. ولونه أزرق.

الشكل الثالث: كالثاني ولكنّه إلى اليسار. ولونه برتقالي.

الشكل الرابع: مربعات منضمّة، فتشكّل مربعًا متوازيًا. ولونه أصفر.

الشكل الخامس: تقسم الشكل الأول في المنتصف، فيتحصّل عندك مربعين مربعين، فتلصقهما بمقدار مربع واحد يمينًا، شبه شكل برق أو حرف z. ولونه أخضر.

الشكل السادس: عكس الخامس. ولونه أحمر.

الشكل السابع: وهو أيقونة اللعبة، والشكل الذي يحل أزمات الترتيب، ثلاث مربعات، يعلو مربعها الأوسط مربعٌ. ولونه بنفسجي.

هذه الأشكال السبعة تَساقطُ متواترةً بعشوائية في مستطيل وعلى اللاعب أن يرتّبها، وينشئ من مربعاتها خطوطًا أفقية، كلّ خطّ يُكسبك نقاطًا، ولديك خيارين: تدويرها، وحفظها.

التدوير: يحصُل لك به أواع تساعدك على ترتيب الأشكال.

والحفظ: يجعلك تحتفظ بالمهم، أو تستبدل عوضَها شكلًا جديدًا، ثم تعود للذي حفظته في وقت آخر، والحفظ تستعمله مرة واحد عندما يسقط شكل، مثلًا؛ سقط الشكل الاول، حفظته، سقط بعده الرابع، لا تستطيع حفظه الان، يجب أن تضعه، ثم سقط الشكل الثاني، الان تستطيع استبداله بالمحفوظ، وتستطيع لعبه، فكتى احتجت للمحفوظ تلعبه، وهكذا.

تحصيل النقاط كما قلنا بترتيب الأشكال بحيث يكون خطٌّ أفق، فإذا استطعت تكوين خطّين بضربة واحدة فجائزتك أكبر، وثلاث خطوط أكبر، والجائزة الكبرى تكون بأربعة خطوط ضربةً واحدة، وهذه يسمونها «تيترس»، ولا تكون إلا بأن ترتب الأشكال وتترك مقدار مربّع فراغًا، وتبني الخط الثاني وتترك له نفس الفراغ، والثالث والرابع، فبذلك يصلح أن تدخل فيه العصا فتكون أربعة خطوط دفعةً واحدة.

وكان باجيتنوف يشعر بشعور مريح عند لعب اللعبة التي أنشأها، وبالأخص حين يصيب التيترس، وهو شعور رائع جدًا فعلًا!

اللعبة ثاني أكبر الألعاب مبيعًا في التاريخ، وليس فوقها إلا ماريو بسلاسله الكثيرة، أما تيترس فلا تصلح بغير هذه القوانين وهذه الأعداد من الأشكال والمربعات، وهي تتكرر منذ أربعين عامًا، مع ذلك هي ثاني أعلى لعبة مبيعًا.

***

أدمنتُها فترةً من عمري، وكنت أبدأ بها يومي، هي كأنها تمارين استطالة للمخ، تنشّطه، وتطوّر كفاءته في اتخاذ القرار السريع المناسب، وتطور تخيله لمآل الاختيار، وتطوّر حس الترتيب عند المرء.

وهذه الأمور العامة تنعكس على الحياة، فمثلًا لو أدمنت اللعبة ثم كُلفت بترتيب مائدة ستجد نفسك سريع الترتيب مع توازن ودقة في توزيع الأطباق، هذا تأثير مباشر.

كنت أظن التأثير تأثيرًا عارضًا، فسمعت أنهم درسوه أكاديميًا فوجدوا لها تحسينًا لما سمّوه: الإدراك المكاني.

بحثت عن هذا الإدراك فوجدته قائمة على قوة الخيال، فتستطيع أن تعرف الاتجاهات، وتتخيل شكل ترتيب غرفة من غير تحريك شيء فعليًا، كله يحدث في ذهنك. وله مستوى أعلى يكون إدراك الذهن في فضاء، أي إدراك ثُلاثي الأبعاد. إدراك الشمال والشرق والغرب والجنوب، وإدراك الفوق والتحت، وإدراك ما بين هذه، فوق شمال شرقي، تحت جنوب غربي، وهكذا.

ويبدو لي هذا الإدراك متجليًا فيمن يعرف القبلة من غير أن يُدَلّ عليها، أو من يركن سيارته وينزل للسوق، فمهما التفّ وصعد ونزل، يعرف جهة سيّارته، هذه أمور تقوّيها في الذهن.

ومما يعني على تعطيل الإدراك كثرة استعمال البوصلات، وبرامج الخرائط، حتى يُصبح المرء ولا يستطيع العودة إلى بيته من غير برنامج الخرائط.

**

لعبة تيترس Tetris أجمل لعبة لعبتها، ولها إصدرات بعدد نجوم السماء، ولكنّها إصدارات شكلية، لا تغير في قوانين اللعبة، لأنك إذا غيرت فيها تغييرًا مهما كان صغيرًا سيفسدها، فهي قائمة على منطق رياضيّ لا يختلّ بالتغيير.

الأحد، 21 سبتمبر 2025

رسائلي إليها (٣)

رسائلي إليها (٣)

يبدو أنني سأطيل عرض هذه الرسائل إذا غدوتُ أحلّلُها في كلّ مرة، لذلك قررتُ مذ اليوم أن أكتفي بنشرها تِباعًا، وأعلّق أحيانًا إذا نشأ عندي تأمّل ما. ولكن قبل أن أبدأ أريد أن أنبّه على بعض الأمور:

ظنّ صديقٌ لي ممن تابعَ الرسائل أنني مُتحايلٌ على القراء الأعزاء، وأن هذه الرسائل من كتابتي وليست من كتابة إنسان غيري، فاعلموا أن ظنّ صديقي غير صحيح، هذه الرسائل منسوبة إلى صاحبها أ.س.

لا أخفيكم أنّ أسلوب هذا الأديب العاشق أ.س. قد مازجَ نفسي فظهرَ بعضُه في أسلوب كتابتي، ولعلّ ذلك ما قذفَ في رُوع صديقي الظنّ الذي ظنّه.

سأحاول الالتزام بنشر رسالة واحدة في كلّ مقالة، وإذا كانت قصيرة سأنشر رسالتين في مقالة واحدة.

ثمَّ ورقة من الحجم الكبير مليئة بالعبارات الجميلة، ليست رسالة وإنما أشبه بمسودة لجمل يكتبها متتابعة على غير نسق، سأجعلها بعد نشر الرسائل.

أترككم مع رسالتين للأديب العاشق أ.س. 

-

عزيزتي،

هل أصبح حبي مبتذلًا؟ لا، لم يكن ولن يكون، ولا كلمة الحبّ بالتي تَبلى إذا كنتِ ضميرَها، أحبّك، أحبّك حتى ينقطع الصوت، أحبك حتى تخور القوى، أحبك إلى أن يقولوا: رحمه الله كان يحبها.

لا أفكر بالسؤال المشهور: هل الحب اختيار أم اضطرار؟ لأني في كلا الحالتين سأكون أحبك.

لم أترك لأحد خيارًا، كلهم مجمعون على أني مجنون، ألا فليُجمعوا! لم أُجنّ لأن فريقي خسر مباراةً، أو لأن سيارتي خُدشت، أو لأن طعامي لم يُتخمني، بل جُننتُ لأنّي أحبك، وما هذا بجنون، ولكنهم لا يعقلون! فإن رقّوا قالوا: مُوَسوسٌ موهوم! وما أصنع بحقيقة لا أتوهّم جمالَها؟ وكيف أنفكّ عن وهمٍ أجد جمالَه حقيقة؟ أكنت في حُلُمٍ دائم، أو واقع موهوم؛ أحبك ولا أحبهم.

أكثرت من ذكر الناس في هذه الرسالة، لقد أغاظني منهم ما سطرته فيها، لا أريد أن أغمك، ولكني أجد الحب اندماج الروحين، وانتظام النبضين، فما أفضيتُ بما يسوؤني إلا إلى نفسي فيك، ولا استبهجتُكِ يومًا بما يسرّني إلا لأسرّك فأُسَر، أنتِ أنا، وأنا أنتِ.


مَنْ يهواكِ دون البشر: أ. س.

-

أودّ أن أعلّق؛ يبدو لي أن أ.س. يعيشُ كثيرًا مع أفكارِه، هو يتخيّل أن الناس اعترضوا طريقه، هم سيفعلون لو أظهر هذه المشاعر، فسبقهم بالردّ قبل أن يبدرون باللوم.

حسنًا.. ترددت في نشر الرسالة التالية، وقلتُ لعلّي أنشر التي بعدَها أولًا، لأنها طويلة قليلًا، ولكن لا بأس.. سألتزم بالتسلسل.

-

عزيزتي،


ها قد مضت سبعةُ شُهور من هذه السنة الغريبة، لا أدري كيف استطعت الصمودَ بلا صُدفة تُحيي رميم عظامي، بلا نظرةٍ تجعلُ لكشحيّ جناحَيْ حُبورٍ أحلّق بهما ولو كان الناس يرَوْنني أمشي على الأرض.


لم أنسَكِ لحظةً، أنّىٰ وأنتِ حاضرةٌ بين كلّ نبضتَين، نبضة تنطقُ بأول حرفَين من اسمك، ونبضة تختمُ بآخر حرفين.


أنتِ الجمال الذي أنتظرُ تنفُّسَهُ في هذه الحياة، وأنت النّدىٰ الذي يبللُ أطرافَ الأزهار فنعلم أنها تبتسم، وأنت النسيم الذي يُناغمُ حقلَ الأرزّ فيتراقصُ ظلّه الذي أطالته الشمس الجانحة للمغيب، أنت اللونُ النقيّ الذي يجمع تناقض الألوان، فيُظهرُ ألا شيء فيه، وفيه كلّ شيء.


في صحراء لا يرىٰ أولها من آخرِها، تغرقُ في سرابِها الجبال، وتهلك في شِعابِها الضباب، وتفنى في وديانِها الأطلاح، لا يكاد سالكُها يصدّق أنه في الدنيا، صحراء يأس مُطبِق، إلا أن لكل إطباق يأس أمل وامض، وأملُها واحة يُحدّثُ عنها الناس ولا يعلمونها، واحةٌ تحفّها كثبان الرمال، وتفترش فيها النجوم، ويتأيّكُ الشجر، وينحني النخيل بأضغاثٍ تحمل رُطبًا؛ وكأنها أيدٍ تختَّمت بالعقيق، وفي وسطها ماء عذبٌ بارد، يسري في الأجساد سريان البرء في الأسقام، يكادُ شاربه لا يظمأ أبدا، فظل ظليل، ونسيم عليل.. وفيها فتاةٌ واحدة تمتشط، وتبتسمُ للجمال بالجمال، هذه الصحراء وواحتها قلبي الذي ما حلّ فيه سواكِ.


لم أكن أحسبُ أن يتفقَ قلبي وعقلي، حتى اتفقا على حُبّكِ، اتّفقا كما تُسلِم الأرضُ ماءَها بُخارًا إلى السماء، وكما ينزاحُ الليلُ برِفْقٍ ليحلّ مكانه النهار، هكذا .. بلا صخبٍ.


عزيزتي.. أختم رسالتي بتحيّتي إليكِ تحملُها تلك النجمة الخَجْلى في ومضاتِها الخافتة.


مُحيّيكِ بالحُسنى: أ.س.

رأي ثالث في قصيدة حسن صميلي

 رأي ثالث في قصيدة حسن صميلي لستُ أبدي رأيًا في شعرٍ لم يطلبه شاعرُه، فإني أغنى الناس عن قولة: "مَنْ طَلَبَ رأيك؟". ولكنّي وجدتُ ا...