قال لي عندما رآني أعود من نزهتي بوجه مربدّ:
أراكَ -إن لم تكن ترى نفسك- قد خرجت بوجه ورجعت بوجه أكثر اسودادًا، وهذا يدلّ على أن طرح البصر في مناحي الأرض لم ينفعك.
فقلت له بنبرة محايدة:
وماذا أصنع؟ قد فعلت ما أمرتني به.
فقال:
لن ينفعك الخروج في الطبيعة إذا كنت في سِجن من نفسِك وهمومِك ووساوسك، والطبيعة لن تمدّ مُبردَها إلى سجنك حتى تُخرجك إن لم تُخرج نفسَك.
قلت:
أليس هذا عجيبًا؟ البحر الزاخر، والسماء الزرقاء، والهواء المنعش، والبشر والطير والشجر، كلّ ما هو متكفل لإخراج الإنسان من كآبته، وقفوا دون باب السجن ينادون من مكان بعيد، لا أكاد أسمعهم.
قال:
لذلك أخبرتك أن سجن نفسك أنت وحدك تملك مفتاحه، أو تملك كسرَه.
***
عدت من غدٍ مُريدًا "كَسْرَ سجني" فخرجتُ إلى الحديقة العامة صباحًا قبل أن يتغيّر الهواء بأنفاس الناس، كانت الألوان أبهتَ مما هيَ عليه، فعلمتُ أن هذا مشهد من خلال نافذة السِجن، أخذت نفسًا عميقًا أو نَفَسين، فشعرتُ بتحرر لِلَحْظة، كما تهبّ نسمة على المسجون ثم يعود الجوّ خانقًا رطبًا، كأن هذه القضبان ارتفعت عنّي ثم عادت مصطكّةً تصدم الأرض وتدوّي في جنبات حوائط السجن.
كانت محاولةً جيدة لإراحة نفسي، وإن لم تستمرّ أكثر من ذلك، فعدتُ إلى صاحبي وكان لمّاحًا لتغيّرات التفس من خلال ما تنطق به العيون، فما إن رآني حتى ابتسم وقال:
يُعجبني المُحاوِل وإن لم يفلح، ألم تسمع بشرف المحاولة؟ فهل سمعت بشرف النجاح؟ دائمًا الشرف قرينُ المحاولة يا صديق.
***
ها قد مضى يومان لم أتحدث إلى أحد، لا أعني الأحاديثَ العابرة والتحيات؛ بل أعني المحادثة والأخذ والردّ والنقاش، المحادثة المتكاملة الأركان، هي حاجة للإنسان أشبه بحاجته للماء والهواء.
أتعلمون ماذا يحدث لمن يُمضي حياته صامتًا لا يسمع إلا أفكاره؟ سيخدر لسانه فما يكاد يقيم كلامًا متصلًا، وتستبدّ به وساوسُ لا تنتهي، يقع في دوّامة لا يعلم كيف ابتدأ ولا إلى أين تنتهي، فقد تعطل لديه محفز التفكير من الناس، يصبح زاهدًا في الحياة، تُظلم في عينه الدنيا، وتفقد بهجتها، وتنسحب الألوان من أماكنها وتحلّ شبيهاتها الرمادية.
أما صديقي الذي ينصح بكسر سجن نفسي، فربما هو لا يعلم أن اليد الواحدة لا تصفق، هو يتركني في قارب في عُرض المحيط بلا مجداف والهواء ساكن، ثم يشير نحوي من منارته العاجية ويقول بابتسامته: تعال يا صديقي. سأفعل ولكن ارم إلي بمجداف!
***
مراقبة السقف هواية مملة، ولكن لي مغزى من ذلك، أريد "كَسْرَ سجني" أو شيء من هذا القبيل، يبدو لي الأمر مُحالًا، أو قل أن حلّ صديقي ليس في موضعه، ليس حلًا أن تصوّر لي تشبيهًا يعبر عن حياتي، ثم تحطم التشبيه بتشبيه مثله، وتبتسم ابتسامة الحكيم، مريحًا ظهرك على مقعد راضيًا بما توصلت إليه من حلّ لمعاناتي، يبدو لي بعد تفكير أن مراقبة السقف هواية مثيرة مقارنةً بالدائرة المفرغة التي ألقاها إليّ صديقي.
***
تكررت هذه العَوْدات إلى صديقي، كان كلامُه حِكَمًا إلا أني لم أستفد منه، والذي لَحَظتُه بعد مُدّة أنه بدأ يشبهني، كنتُ أقشرُ ألوانَهُ شيئًا فشيئًا بيأسي وظَلامي الذي أسبغُهُ على ما حولي.
اليوم انتبهت إلى تلعثمِه، وبطء بادرته في الحِكَم البرّاقة، يتكلم الكلمة ثم يصمت في منتصف الثانية، قتلتُ فيه روح المتفائل، كان ظلامي واكتآبي أعتى من تفاؤله وابتهاجه.
قلت له في آخر لقاء:
يبدو أنني لن أتغير.
فردّ بنصف صوت:
لا تقل ذلك كل شيء بتغير.
فانتهزت هذه الفرصة التي واتتني بأنه يقول كلامًا لم يمحّصه في نفسه فقلت:
بلى صدقت، وإني لأراك قد تغيرت وأصبحت أشبه بي من نفسي! هذه الظلمة التي كنت تسميها سجنًا، أتستطيع الآن الخروج منها؟ قل لي! كنت مُولعًا بالحِكَم الرنّانة التي أشعرتني بالتوهان، خذها وابرد بها قضيان سجنك!
وتركته ومضيت، لم ألتفت إليه، ولا أقابله بعد ذلك، خُبّرتُ أنه انعزل، وتحوّل إلى جذع شجرة مُلقى، أصابه ذلك لأنه لم يعتد الظِلمةَ اعتيادِي إياها، ما لي وله
يعني صديقك الذي كان سندك الذي تلجأ إليه فيعطيك من حكمه، لم تكف فقط بعدم اتباع نصائحه بل وعاديته بمرضك وتركته غير آبه لما حل به وتقول مالي وله 🙂
ردحذف