الأربعاء، 30 يوليو 2025

الوِحدة

 الوحدة

كنت أقرأ قديمًا عن الوحدة، وأن الوحدة هي شعورك بالانفصال عن محيطِك ثقافيًا، فربما يكون الإنسان جالسًا وحده وهو في شعور رائع، ويكون مع الناس ويشعر بالوحدة.

هذا كله هُراء مَحْض، الإنسان المنعزل انعزالًا تامًا عن البشر ربما يشعر بحريّة في بداية انعزاله، ولكن ما يلبث أن تضيق عليه نفسه، فما يشعر بشيء، ويُغامُّ على ذهنه، فيشعر بعجز لا في جسده؛ بل في نفسه، فتخيل أن تكون النفس الوحيدة التي تتفاعل معها هي نفسُك، ومع ذلك تضيق ذرعًا بها وبأفكارِها السوداء.

أنا مُعلّم كما تعلمون -معلّم وظيفةً لا قدوةً كالطنطاوي- كنتُ ضائق الذرع بالمدرسة خلال الفصل الثاني، لا بسبب الطلاب أو الزملاء، بل لأني لا أستطيع أخذ كفايةَ نومٍ، وإذا أخذت كفايةَ نوم لم يبق لي من يومي إلا سويعات أجاهد فيها التعب حتى يحين وقت النوم.

فانتظرت العطلة انتظار أهل الغائب لإيابه، فلما نزلت بنا العطلة، أطعمتُها من ساعات أيامي ما لو كانت عشبًا لأربت على حاجة الفيل!

ولكن لم أشعر أنني فقدت شيئًا مهمًا كان يملأ حياتي ويستجمّ به ذهني، وهو محادثة الزملاء والتفاعل مع الطلبة، فكان الأمر أن انتقلت من مقابلة خمسين إنسانًا في اليوم، إلى مقابلة لا أحد!

مرّت الأيام أظلّ بها ساكتًا لا أسمع إلاتخيلات يصنعها ذهني، وفي هذه الساعة أحاول استذكار آخر حوار مطوّل بيني وبين إنسان، وهو الحوار الذي يعيد للنفس نشاطها، فما أجدني كلمت أحدًا منذ ستة أيام! وقبل تلك المحادثات لم أكلم إنسان لأسبوع، عرفت معنى المُجتمع.

كان ضيق الذرع بالعُطَل يصيبني يوم كنت في الجامعة، فكنتُ أتعمّد تسجيل المواد في الصيف كي أقضي الصيف في مجالات ثقافية وإن كانت موادًا، كنت أستمتع بالحضور وكأنني أحضر ندوات، ثم وقت الامتحان لا أجتهد، فأخرج من الصيفيّ بتقديرات يشيب لها الغراب، ويصلع لها عِثوَلُّ الضِباعِ القشاعمِ!

نترك مصيبتي بدرجاتي ونعود، أقول إنني أمارسُ عجيبةً لم أسمع أحدًا يتكلم عنها، قد تسمع بمن يجعل له يومًا لرياضة، أو يومًا يركب فيه البحر، ولكن رجلًا له يوم واحد يتحدث فيه إلى مخلوق!

ومشيت يومًا في الشاطئ وحدي، فأردت التمثل ببيت المتنبي:

وحيدٌ من الخلّان في كلّ بلدةٍ

ثمّ تبسّمت، وودت لو خنقتُ المتنبي، فإنه أكمله بعلة وحدته:

إذا عظُمَ المطلوب قلّ المساعدُ

ليست هذه علة وحدتي يا أحمدَ بن الحسين! كأني به يلتفت إلي ويقول:

أعرف علّتك، علتُك ليست عِظَم المطلوب، بل الإجازة الصيفية!

فأجيبه:

كلّ له علة يا علة، ولكنني سأعدل بيتك ولن تُمانع:

وحيدٌ من الخلّانِ في كلّ بلدةٍ

ويشقى بعُطلاتِ المَصيفِ المُوَظَّفُ

ربما أفسدتُ البيتَ أيّما إفساد، لو كنت استشهدت ببيت الخليع ثم عدلت فيه، وهو قوله:

كأني وحيدٌ لا يُسَرُّ بمؤنِسٍ

من الناسِ حتى تنقضي الأشهرُ الحُرُمْ

فأقول:

كأني وحيدٌ لا يُسَرُّ بمؤنِسٍ

من الناسِ حتى تنقضي هذه العُطَلْ

ولكن أشعر أن المعنى صار غبيًا، فالمعنى الذي أريده أني وحيد يبحث عن الناس، لا أنه لا يُسَرّ بمؤنس! عمومًا شاعر لقبه الخليع ماذا ترجون منه؟ ماذا؟ أنا المخطئ ليس هو؟ نعم هذا ما قلتَه يا قارئي العزيز، خذ إذن هذه النقطة التي أنهي بها مقالتي •

الأربعاء، 16 يوليو 2025

كافكايَ غيرُ كافكاهمْ

 كافكايَ غيرُ كافكاهم

قرأت لفرانز كافكا بعض رواياته الطويلة والقصيرة: رواية التحول، ورواية المحاكمة، وقصصًا قصيرة ترجمت بعضها كما رأيتم.. حقيقةً الحَقْل الذي يمشي فيه كافكا لا يعجبني من غيره، ولكن حينما أقرأ لكافكا أشعر أنني متقبل، كافكا يُبلّغك المعنى بوضوح، وهذه الفصاحة نادرة، لذلك لا أتقبل غيره يتحدث في هذه الأمور.

حين يقول في رسالته إلى ميلينا:

"لن تستطيعي البقاء بجانبي ليومين، أنا رخو أزحف على الأرض."

العلة غريبة، ما معنى "رخو أزحف على الأرض" ؟ بكلّ عفوية فسّرها كافكا فقال بعد ذلك: "انطوائي كئيب متذمّر أنانيّ سوداويّ"

فقوله: "رخو أزحف على الأرض" فيها مشاعر كثيرة جدًا من الكآبة واليأس من الحياة، والملل من النفس، ولوم النفس على ما أخطأت فيه وما لم تُخطئ.

بعض المعاني التي أقرؤها عند كافكا، أجدني كتبت مثلها قديمًا، مثلًا في رسالته إلى ميلينا قال: "لم أتمكن من أن أتذكّر وجهك، ولا تذكرت شيئًا من ملامحه بصورة واضحة، أذكرك فقط بينما كنتِ تبتعدين وسط مقاعد المقهى، هيئتك بصفة عامة، ثوبك… ما زلت أذكرهما."

وقلت:

وأُنسيتُ من فَقْدٍ ملامح وجهها

سوى ظلّ طَيْفٍ في ظلام الدجى يسري

مثل هذا التشابه غير المقصود يقرّبني من كتابات الكاتب، وهذا الذي كان مبدأ التفاتي إلى دوستويفسكي، حين قرأت (في قبوي) فوجدت فيه صورتي لو تطرّفت، فكان تنبيهًا لي ألا أستمرّ في طريقة تفكيري حتى لا أصير كبطل رواية (في قبوي).

وقرأت لكافكا رواية (المحاكمة) فشبهتها برواية جورج أورويل (١٩٨٤)، ربما يكونان ينطلقان من فلسفات متباينة؛ غير أني وجدتُ في الروايتين شعور الحبس، والقمع، وعدم وضوح الحقيقة، والإحاطة من كلّ جانب، ومحاصرة جميع الحلول، ولكنّي كرهت أورويل وروايته، وأعجبني كافكا وروايته.

وقرأت لكافكا (التحول)؛ هذه الرواية أكثر رواية سمعت بها في الجامعة، ولأني كنت طالبًا مُهملًا فإني لا أذكر لم كانت تُذكَر، ولا أعلم في أي سياق علمي يُستشهد بها، عمومًا كانت صورة كافكا فاسدة في ذهني، حسبته معقدًا، يكتب بكتابة حمقاء ككتابات الحداثيين، كتابة لا معنى لها، ثم قرأت (التحول) بعد سنوات من تخرجي، فرجدتها رواية طريفة، كابوسية نعم، فليس جميلًا أن تُصاحب بطلًا صحا من نومه فوجد نفسه حشرةً ولا يدري ما يفعل لهذه الظاهرة، وهمله ينتظره ومجتمعه يرقب خروجه من غرفته، نعم هي كابوسية ولكن فيها حوارات وأحداث جعلني تحيُّلُها أضحك.

وترجمت لكافكا قصصًا قصيرةً، منها قصة (بوسيدون) و(رسالة من الملك) هاتان القصتان صوّرتا يأسي من كلّ معاملة تحتاج توقيع المدير فلان واعتماد الجهة الفلانية، مما يجعلني مُجمَّدَ الحياة، لا أعرف كيف أتاجر أو أطبع كتابًا، ثَمّ لكلّ شيء تعمله ثمنٌ من التواقيع الرسمية، والختوم والأوراق، والبيروقراطية التي يتكلم عنها كافكا وينتقدها، هذا أيأسني من أن أجاري الناس في كل ميادين الحياة، ووجدتُ كافكا يصف المأساة البيروقراطية أدقّ وصف.

بودي لو أقول أن كافكا صديقي، ولكن من يتناقلون رواياته وأفكاره من جهة فلسفته الوجودية أو العبثية أو ما لا أدري من مَخْرقات الغرب يقرأونه بطريقة مغايرة جدًا لطريقتي، وذا ما يجعلني أتحفّظ دون قولي: كافكا صديقي. لا أريد أن أقف معهم على صعيد واحد، أنا أقرأ لكافكا من جهة الشعور المشحون في كلامه فقط، لا ألتفت لفلسفة أحد من العالَمين، هو صديقي بطريقة مختلفة عن بقية الناس.

السبت، 5 يوليو 2025

ثلاثة طرق في إعداد الشاي

ثلاثة طرق في إعداد الشاي

ارتأيتُ إثبات طُرُقي في إعداد الشاي، لكثرة ورود الأسئلة عن ذلك.

لي مع الشاي طرائق في إعدادِه، طريقة الإعداد السهل، وقد أصبحت الأصل في الأيام الأخيرة، لأن تحصّل الشاي العالي صعب، فاعتمدتُ شاي سيلان الموسوم بـ op1 ومعناه في تقويم الشاي السيلاني أن أوراق الشاي كاملة، ورقم 1 معناه جودة أعلى، هذا النوع من الشاي هو ألذّ ما يمكن في الشاي التجاري، لأن أوراق الشاي إذا سحقت أو كسرت زادت سرعة استخلاصها، فنصبح قلقًا أن يمررَ الشاي إذا تأخرت في عزل أوراقه عن مائه.

أخذ ملعقة من هذا النوع، وأضعها في كوب، وأسكب عليها ماءً مغليًا، وأغطيها خمس دقائق. التغطية مهمة للمحافظة على غِنى النكهة.


الطريقة الثانية عندما يكون عندي شاي عالٍ، كشاي مي شانغ، أو 24k أو نوع جيد من شاي الأولونغ فإني في حال كان شايًا أحمر فالماء مغليّ، وآخذ نصف ملعقة وأضعها في غاي وان أو ييشينغ (إبريق من الطين الأحمر) ثم أصب الماء فيه وأنتظر 30 ثانية وأسكب الشاي، السكبة الأولى لا تشرب، هذه لتفتّح الأوراق فقط، ثم السكبة الثانية 45 ثانية، ولا أغير الأوراق، وهذه تشرب، والثالثة 1 دقيقة و15 ثانية.

أما إذا كان الشاي أخضر كشاي لونغ تشينغ أو جيوكرو؛ فإني أجعل الماء على حرارة أقل من 75 وأحيانًا أنزلها إلى 65، إذا لم أفعل ذلك فإنه سيصير حنظلًا! الشاي الأخضر حساس، أنقعه لمدة 15 ثانية، ثم أسكبه، ولا أشرب هذه السكبة الأولى، ثم 20 ثانية، وتُشرب، ثم 25 ثانية.


الطريقة الأخيرة خاصة للماتشا، والماتشا شاي أخضر ياباني لا يؤكسد البتة، يُقطف ويجفف ويُطحن، الماتشا يحتاج أدواته الخاصة: التشاوان: وعاء خزفي واسع، والتشاسين: مِخْفَقة من خيزران، لها مقبض ثم تفصّل إلى 120 عودًا، والتشاشاكو: وهي ملعقة خيزران معكوفة لغرف 1 غرام من الشاي، هذه هي الأدوات الأساس.

بدايةً أسخّن التشاوان، ثم أضع غرامَ ماتشا بالتشاشاكو، وعليه ماء قليل، وأحرّكه قليلًا بالتشاسين، ثم أزيده حتى يبلغ مقدار نصف كوب، هنا يبدأ تحريكه وخلطه بالتشاسين بشكل متعرج لا دائري، كي لا يلتصق على جوانب التشاوان، وهنا المرحلة الصعبة، فطريقة التحريك يجب أن تُداخلَها حركة للأعلى، تخرج فيها جزءًا من أطراف التشاسين المغمور، فدخول الهواء خلال الخَفْق مهم جدًا.

فإذا تكوّنت رَُِغوة على سطحه فهذه أمارةٌ أنه جاهز للتقديم أو الشرب.

الماتشا أعقد أنواع الشاي إعدادًا، وأي خطأ في إعداده يصبح مُرًا مَقِرًا لا يُشرب.

الأربعاء، 2 يوليو 2025

جَميلة

جَميلة

لو سألتني يا أخي عن جمالها، فربّما اجتلبَتْ العينُ بما ترى من جمالٍ حُبًا معلقًا بهذه العلة، علةَ الجمال، ثم سيُقال: لا تفرح، سيأتي يوم تعفو على هذا الجمالِ رياح السنين، حتى تُعيدَه غُبرةً لا شيء فيها.

صدق من قال ذلك لو قاله، غير أنها ليست جميلة!

نعم، قد عشتُ حياتي محللًا للجمال، سامعًا كلام الناس في تشكيله واختياره، وإن كانت معرفة الجمالِ تختلف بين عين وعين؛ إلا أن الذوق العامّ يجول في ميدان لا يخرج عنه، وهي ليست في ذلك الميدان!

إذن أنا أعلم أنها "عقلًا" ليست جميلة، لا لا.. الأمرُ ليس كَذا، إنها جميلة، بل بارعة، تبهرُ حتى يذهل القلبُ عمّا حوله! تخيل لو ظهرت الملائكة لحظةً لرجل، ثم قيل له صف جمال الملائكة، أكان يستطيع؟ وكيف يوصَف ما لا يُقاس عليه شيء فنقول كأنه كذا وكذا!؟

لا أعلم كيف أصف جمالها، جمال فوق الوصف، غريب أصيل، لا تُشبه بقية النساء، كأنّ كأس الحُسنِ مترعةً تتهادى حتى صُبّت عليها صبًا، فكان أجمل من القمر ليلة البدر، وأجمل منه حين يتغشاه السحاب فيُنير شيئًا قليلًا خلاله، أجمل من الشمس في صباح شاتٍ، أجمل من الندى على ثغر زهرة تُسلمُهُ إلى دمث تراب قطرةً قطرةً.

جمالٌ فريد عجيب غريب، لا يوفّيه إلا سؤال المازني:

"أنت إنسانٌ على فَرْطِ جمالِكْ !؟"

رأي ثالث في قصيدة حسن صميلي

 رأي ثالث في قصيدة حسن صميلي لستُ أبدي رأيًا في شعرٍ لم يطلبه شاعرُه، فإني أغنى الناس عن قولة: "مَنْ طَلَبَ رأيك؟". ولكنّي وجدتُ ا...