الذهن مشتت تشتتًا يمنعُ من تدفق الأفكار لكتابة مقالة، ولكنّي مُسترخٍ لعلمي أن قرّاء المقالات وإن كانوا أقبلوا على أول مقالتين فسرعان ما سيتناقصون حتى أبقى وحيدًا أكلم نفسي، وهذه أروَحُ حالةٍ للكاتب المليءِ النفسِ الذي لا يدري كيف يحلّ قلقَه المتشابك.
أقرأ هذه الأيام روايتين بالتوازي، لا أحب هذه الطريقة ولكنّي محتاج إلى الانفصال عن عالمي إلى عوالم أخرى، وهذا يتحقق بالروايات بإذن الله.
الرواية الأولى هي رواية أوليفر تويست للكاتب الإنجليزي تشارلز ديكينز، أردتُ القراءةَ لهذا الكاتب منذ علمت أنه في الأدب الإنجليزي كتولستوي في الأدب الروسي، فأقبلت أولًا على قصة مدينتين ولكنّي لم أستطع البداية بها، ثم بدأت بأوليفر تويست وانغمست فيها سريعًا، شدّني من أحرفه الأولى، ربّما لأنه بناها على الظرافة السوداء، والنكت من أكثر الأساليب إثارة وجذبًا للقارئ، لأنها لا تتم إلى بنهايتها، فكيف إذا كان الكاتب ذا أسلوب عالٍ، ولا يتركك تنتهي من نكتة إلا أردفها بمثلها؟
سأروي لكم أجواءها إلى الموضع الذي وصلت إليه، ما زلت في البداية، أوليفر تويست وُلد عن مخاض امرأة اضطُرّت إلى مستشفى الولادة، ثم ماتت بعد ولادته، فأخذت القابلة الولد الذي لا يُعرف اسمه، ولا من أبوه، ولا من هي هذه المرأة التي دخلت عليهم فجأة؛ أخذته وقدّمته إلى الأبرشية لترعاه، فأخذه الشمامسة إلى ملجأ أيتام مع تكاليف معيشته، وكانت صاحبة الملجأ جشعة ظالمة، لا تكاد تعطي اليتامى كفاف معيشتهم وتأخذ بقية المال لنفسها، وبعد بلوغه تسعة أعوام عاد إلى الأبرشية، ولا أريد التطويل عليكم؛ ولكنّ وصف ديكنز للبؤس والحرمان والجوع بروح ضاحكة شيء يصيب مواضع الحزن في أعماقك فعلًا.
انقطع حبلُ أفكاري بسبب الوظيفة، انقطع قطعًا وحشيًا لا هوادة فيه، وبتّ أتفكر في حال دوستويفسكي كيف كان يكتب مع وجود ضغط اقتضاء الدائنين أموالَهم، ومطالبِ المجلات توقيت النشر، ومع ذلك أتحفَ البشر بأمثال الجريمة والعقاب والإخوة كارامازوف التي لم أقرأها بعد، والمقامر التي كتبها في ستة وعشرين يومًا بمساعدة مختزلته وزوجته بعد ذلك آنا غريغوريفنا.
الكتابة تحتاج صفاء ذهن الكاتب من المشتتات الصغيرة فما بالك بمشتت يشتت شملَ نفسك وفكرك وصحتك وأنت تعلم أنك لا تنفع ولا تضرّ، وعملك كله ضائع ضياع كرة تعدت الخط بعد صافرة الحكم، تشبيه سخيف متحذلق.
أمنيتي أن أكون موظفًا كاتبًا لا غير، أعطى المال لكتابة أفكاري وتخرّصاتي فقط، والحقّ لو تعلمون أن هذه التخرّصات أثقل في ميزان الأدب من كثير من الكلام الجَدّ، والأدب "الرفيع".
كنت أريد الحديث عن الرواية الثانية التي أقرؤها، لعلّي سأرجؤها إلى جزء ثانٍ لهذه المقالة، يفعل الأدباء ذلك أحيانًا.
هل من بأس إن اقتبستُ من كتاباتك، ووضعته بين علامتي تنصيص: "ولكنّي مُسترخٍ لعلمي أن قرّاء المقالات وإن كانوا أقبلوا على أول مقالتين فسرعان ما سيتناقصون حتى أبقى وحيدًا أكلم نفسي، وهذه أروح حالةٍ للكاتب المليء النفسِ الذي لا يدري كيف يحلّ قلقَه المتشابك."
ردحذفلا بأس، ولكن انسب الاقتباس إلي
حذف👍🏻
حذف