الثلاثاء، 29 أبريل 2025

المسرح والحِوار

 

المَسْرَح والحِوار

جريمة في قطار الشرق – الحوارات – الضيف الحجري - بوشكين

لاحظتُ من أسلوبي في المقالات الثلاث عن قصتي في الشعر أنني حين أتحدثُ عن ذكرياتي أظلُّ أسردُها سردًا من غير أسلوب واضح، كأنني أسرد حاجيات المنزل: بيض، طماط، صحون. وصلت الفكرة؟ لا لم تصل.

قبل اخْليلاقي في المقالة (لا أريد أن أقول "شُروعي" لأنني أديب) كنت أقرأ في رواية: جريمة في قطار الشرق. وصلت منتصف الرواية، جاءت الرواية على ما أفضله، أنا أحب الحوارات، وأحب في روايات التحقيق أن يكون مكانًا مغلقًا، والمتهمون محدودون، والتحقيق يكون باستجواب الموجودين، وسماع إفاداتهم، وملاحظة التناقضات، ودقائق التغيرات، وهكذا هذه الرواية، فثلثها الأوسط عبارة عن فصول معنونة بإفادة فلان، وإفادة فلانة، ولعلي لهذا السبب لم يسُغْ لي  آرثر كونان دويل في مغامرات شارلوك هولمز، لم أقرأ بعد (دراسة في اللون القرمزي) ولكن بشكل عام قصصه القصيرة لم تجذبني لأنها تفتقد للحوارات والاستجوابات، وأشعر دائمًا أنها قصص كوميدية.

تفضيل الحوارات جعلني أحب قراءة المسرحيات فهي قائمة على الحوارات، يكون الوصف قبل ذلك وصفَ المسرح والأجواء، والشخصيات الموجودة، ثم يكون الأمر كله حوارات، لأن الحوار أكثر طَبَعيّةً من الوصف، ويشبه  ما تقضي به نصف عمرك أعني الحوار، ومن ذكاء الكاتب أن يستطيع إيصال الحدث بالحوار فقط من غير فجاجةً.

أول مسرحية عرّفتني على هذا الأدب كانت (الضيف الحجري) لألكسندر بوشكين، في بداية انبهاري به وبالأدب الروسي جعلت أبحث في كل مكان عن هذا الأدب، فظهرت لي هذه المسرحية مسجلة في البرنامج الثقافي على الإذاعة المصرية.

قدم البرنامج الثقافي منذ الستينيات مئات المسرحيات العالمية مسجلة بلغة جميلة مُعربة، وأداء أسطوري يجعلك ترضى أنك لم تدرك العمل بلغته الأصلية، وأنك لن تراه من باب أولى ممثلًا في مسارحنا.

أحدثكم عن قصة مسرحية الضيف الحجري؟ تمام، بطل المسرحية هو الشخصية الأسطورة دون جوان، زير النساء، قتل العقيد دي سيلفا في مبارزة، فنُفي من مدريد، ثم عاد إليها متخفيًا، ودخل ديرًا فيه قبر العقيد دي سيلفا، فرأى هناك الدونا آنّا أرملة العقيد، فأراد إغوائها، فمما أبهر به بوشكين هذا النص، من حوار دون جوان وآنا، قال دون جوان:

"أنا؟ أنا أصلّي مع دونّا آنّا؟ هذا قدرٌ من السعادة لا أستحقّه، شفتايَ هاتان الشرّيرتان لن تجرُؤا أبدًا على ترديد ابتهالاتكِ القُدْسيّة، ولكنّني .. ولكنّني أطلُّ عليكِ من بعيد في خشوع حينما تنحنينَ في صَمْت، تنشرينَ ضفائرَكِ السوداءِ فوق الرخامِ الشاحبِ، حينئذٍ.. حينئذٍ يبدو لي أن مَلاكًا قد هبطَ إلى هذا القبرِ سِرًا، وعندئذٍ فإن ما أجده بداخلِ قلبيَ المعذّبِ ليست هي الصلوات، لا، ولكنّني أقف في عجَبٍ صامت أفكّر، وأقول: أوه.. يا لَهُ من رَجُلٍ سعيد، ذلك الذي يدفؤ رخام ضريحِه البارد بأنفاسٍ من شفتَيها السماويّتين، ويبتلّ بدموع حبها العظيم."

    وهذا المشهد رسمه الرسام الروسي إيليا ريبن عام ألف وثمانمئة وخمسة وثمانين، أي بعد خمسة وخمسين عامًا من كتابة المسرحية، وبوشكين غني عن التعريف، هو وغوغول كانت منهما انطلاقةُ الأدب الروسي الذي يُعظّمُه القراء، قبل ذلك لم يكن له وزن كبير، حتى قال برنارد شو:

"ما الأدب الإنجليزي أمام الأدب الروسي إلا كالأكواخ أمام القصور."

The Stone Guest. Don Juan and Doña Ana 1885
Ilya Repin


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الحَلُّ لكل شيء

 الحلُّ لكلّ شيء حين يجلس وحدَه رجلٌ كثير التفكير والقلق تصل به أفكارُه إلى مُعضِلاتٍ لا حلّ لها، ولا يرتاح باله حتى يبلغ بعَقْدِه الأفكارَ ...