الترقيم والتعقيم
انقطعتُ عن المقالة أيامًا، ليس لشيءٍ إلا أنني فقدتُ شرطَ العفوية الذي وضعته بيني وبين نفسي، فإني أبدأ المقالة ولا أعلم ما سأقول، فتتدفق الأفكار شيئًا فشيئًا، ثم أعدِّل البداية وأُرابط بين أجزاء المقالة، فتستوي مقالةً كاملة. ثم إني في يومٍ قلتُ: أريد أن أتكلم عن علوّ شعر أبي العتاهية، فوقعتُ في أرضٍ وخيمة، فالبحث العميق أكبر من المقالة العابرة.
حقيقةً، الكتابة دُربةٌ على كلّ مهارات اللغة؛ فعند الكتابة تحتاج النحوَ والصرفَ والبلاغةَ والرسمَ (الإملاء) والترقيمَ، ومع الوقت تعتاد هذه الأمور. وقد بلغ بي الأمرُ بالترقيم أنه يخرج عفوًا لترتيب معنى الكلام، ولو كنت أكتب باللهجة الدارجة في رسالةٍ لأحد.
فنّ الترقيم فنٌّ جليل، يختصر عليك معاني الجمل، ويُعيّن على تحديد نبرة الصوت. وقد درسته في الجامعة عند عبد الفتاح الحُموز في مادة: “المهارات الكتابية”. قرر علينا أن نشتري كتابه من الأردن بعنوان فن الترقيم، الكتاب طبعة دار جرير الأردنية. لم تكن لنا معرفة بالشحن، فتكفّل أحد الإخوة بجلبه من الأردن، فأوصى طالبًا يدرس هناك أن يأتيه بنُسَخٍ من الكتاب.
عبد الفتاح الحُموز عالمٌ جليل من علماء العربية، وله آراء في اللغة، منها:
• الميم في “اللهم” للتعظيم، كالميم التي في “زُرقم” و”خُضرم”.
• علة منع صرف “أشياء” في قوله تعالى: (لا تسألوا عن أشياءَ إن تُبدَ لكم تسؤكم)، هي علة صوتية، كي لا تتكرر: “إن إن”، لو كانت مصروفة.
• واقترح في رسم الهمزة أن تكون فوق الألف عند فتحها، وأسفل الألف عند كسرها، ووسط الألف (في جوفها) عند ضمها!
عمومًا؛ لنأخذ أمثلةً على تأثير علامات الترقيم في نبرة الصوت:
“أين كنت؟”
هذا سؤال عادي عن مكانك، ولكن:
“أين كنت!”
هنا السؤال فيه لومٌ واستنكار، أو فرحة بلقاء بعد زمن طويل.
ومن فوائدها أنها تريح القارئ، وتجعله يعرف أين يقف من غير أن يستنفد طاقته في إدخال الكلمات بعضها ببعض ثم العودة والتصحيح. مثلًا، هذا نقل من قصة “المتشردون” لمكسيم غوركي، والقطعة عقيمة من علامات الترقيم:
حرية الفلاح أغلى ما يملك عش سيّدَ نفسك ليكن البيت الذي تسكنه بيتك لا يملكه غيرك ولا عليك أن يكون رخيصًا صغيرًا لك أرض حقًا أنها ليست إلا قبضة من تراب ولكنها أرضك أنت لك دجاجتك وبيضها ولك بطتك وريشها إنك إذن ملك ذو تاج وذو عرش
فإذا وضعنا علامات الترقيم، لاحِظ الراحة في قراءتها:
حريةُ الفلاح أغلى ما يملك. عشْ سيّدَ نفسك، ليكن البيت الذي تسكنه بيتك، لا يملكه غيرك، ولا عليك أن يكون رخيصًا صغيرًا. لك أرض، حقًا إنها ليست إلا قبضةً من تراب؛ ولكنها أرضك أنت. لك دجاجتك وبيضها، ولك بطتك وريشها. إنك إذن ملكٌ ذو تاجٍ وذو عرش!
ألَحَظْتَ الفرق؟ في الأولى، القراءة مزعجة والجمل متداخلة، وفي الثانية تيسّرت القراءة بعلامات الترقيم. اعتادوا على علامات الترقيم، ولا تُهمِلوها.
أحسنت.
ردحذفحبّذا لو تكتب لنا -ولو شيئاً مختصراً- عن علوّ شعر أبي العتاهية.
جميل
ردحذف