ترنّم الكَوْئي
هذه مقالة أكتبها والساعة تمّت واحدةَ منتصفِ الليل، الهدوءُ رابضٌ في العالم، النجوم ساهمةٌ في صفحة الليل السوداء، أريد أن أخبركم عن شعور لمَعَ في خاطري.
كنتُ امرءًا شغوفًا بالفائدة، أطردُها حيثما كانت، تُنجِد فأُنجد، وتغورُ فأغور، حتى أظفرَ بها، ولحظة الظفرِ بها يتّسع الأفق حولي فجأة، فأجدُ شبيهاتِ هذه الفائدة؛ أمهاتها وبناتِها، أمرّ بهن مرورَ الواله الشَغوف، أجمعُها حتى لا أكادُ أعيها كلّها، ولكنّي أخشى انطفاءَةَ هذه الشعلة من الشَغَف بالمعلومة الجديدة.
وبعد اتّساقِ اندفاعي الشَغوف أجوزُ إلى المرحلة الثانية، أريد أن أشارِكها أحدًا، ألتفتُ يمنةً ويسرةً أبحثُ عمّن يُقدّر هذه الفائدةَ كما قدّرتُها، ينبهر بها كما انبهرت بها من غير مجاملة، تكون نَوّارةً في ذهنه حقًا لا ادّعاءً، وغالبًا أخيب عند هذه المرحلة، فلا أجد من أشاركه هذه المعلومة الشاردة، أو ذاك البيت البارع، أو تلك العبارة الرشيقة، غالبًا لا أجد أحدًا حولي في الواقع ولا في المواقع.
لمعت هذه الخاطرة في ذهني لأني في الليلة الماضية لم أستطع النوم من الحماس لقاعدة فهمتها في إحدى اللغات، واستطعتُ ربطَها بقاعدة في نحو اللغة العربية، من شدة فرحي بها ما استطعت النوم إلا غِرارًا.
هذه من مواجع الثقافة، من مخايب القراءة، تقرأ وتتزوّد ثم يبقى ما قرأت وما تثقّفتَه حبيسَ صدرك لا تشاركه أحدًا، ليس بخلًا منك ولكن هذا الشخص ليس موجودًا.
إن مثلي في بحثي عمّن يراجعني معاطاة الجمال كمثل طائر الكَوْئي، أتعرفون طائر الكَوْئي؟ هذا طائر كان منتشرًا في جزر هاواي، وتناقصت أعداده، حتى انقرض، الحزين في قصته أن عندنا تسجيلًا يتيمًا لتغريدته الأخيرة قبل انقراضه عام ١٩٨٢، اسم الطائر Kauaʻi ʻōʻō كاو إي آو آو.
أحيانًا أقتبس من كتاب أقرؤه عبارة أو فائدة لفتت انتباهي، أكتبها مع اسم المؤلف ورقم الصفحة ثم ألقيها في قناة على التليغرام أو في تويتر -أيامَ كنت أغرّد فيه-، أو في غيرهما، ولا أخفيكم أن شعوري عندما أنقلُ لمواقع التواصل فوائدَ مما أقرأ هو شعورُ قاذف الصخرة في عُرض البحر، أو نافخ الدخان في الهواء.
حتى هذه المقالات أحب تفاعل القارئ معها، وأبياتي التي أكتبها، أحب أن يتحدث سامعي عن معنى أعجبه فيها، ولكن الناس يكتفون بالنقد عن جهل، أو بأسوأ من ذلك؛ يكتفون بالمديح! يمدحون الشاعر ويتركون القصيدة، وإن أبغضَ ما أجد في نفسي المديح، بل إن ذهني يفسّره استهزاءً سواءً كان المادح صادقًا أو مجاملًا، كلّها تصبّ في ذهني استهزاء، وقد قلت مرة:
إذا مادحٌ ألقى إليّ بمدحةٍ
أرنّتْ بنفسٍ كالعصا تتقصّفُ
فيُكربُني إحسانُ ظنٍّ لأنني
بنفسي وما فيها من النقصِ أعرَفُ
وأحسبُها أدنى إلى هُزْءِ هازئٍ
يقول: صباحُ الخيرِ. والليلُ مُغْدِفُ
كنت أردّ المدحة، فيزيدُ المادح فيظنني أتواضع، وهذه أشد، فبعد سنوات توصلت إلى أن أسكتَ عن المديح: قل ما تشاء، وسأنتقل لموضوع آخر بمجرد أن تنتهي.
وهذه الأخيرة ذكرتني بلقطة عجيبة من المومين (وادي الأمان) في مشهد يجمع سنفكين مع مخلوق يشبه ابن عرس، كانا في الغابة في الليل، طلب المخلوق من سنفكين أن يختار له اسمًا، فكان هذا الحوار:
المخلوق بتردد وخجل:
قد أطلب منك الكثير ولكن.. هل يمكنك أن تفكّر باسم لي؟ اسم لي فقط، اسمٌ لا يملكه أحد، هذا هو الاسم الذي أريده.
سنفكين:
من الصعب التوصل للاسم الذي تُريدُه..
المخلوق بإصرار:
ولكنك شخص يعرف الكثير، أليس كذلك؟
سنفكين بنبرة منبّهة:
أنت! إذا ظللت متعلّقًا بشخص كثيرًا ما سيؤدي ذلك لفقدانك حريّتك.
المخلوق مبتهجًا:
أرأيت! أنت حقًا تعرف الكثير من الحقائق والمعلومات!
فالتفت سنفكين عنه، وزفر، وسكت.
هذا المشهد فيه كثير من المشاعر، والدفء، والحكمة، والذي أريده منه أن سنفكين نبه المخلوق مرة واحدة على ترك الغلوّ وترك المديح والتعلق بأحد، فلم يستجب، فتركه وسكت حتى ينتهي، فلذلك صرت أسكت عند مثل هذه المواقف.
أشعر أنني قطعت مشهد سنفكين والمخلوق، طبعًا سكت سنفكين وظلّ المخلوق يثرثر، ولم يختر له سنفكين اسمًا، فغادر المخلوق محبطًا قائلًا لسنفكين: "سايونارا" وهذا وداع في اللغة اليابانية لمن لا يتوقع لقاؤه بعد ذلك، ومشى خطوات، فناداه سنفكين فقال:
أما اسمك، اخترت لك اسم: تيتي وو، بدايته لطيفة، ونهايته فيها قليل من الحزن.
في اقتباس بحبه دايما اتمنى يوصف بعض ما عندكم من شعور بقول * ((أتمنى أن تجد يومًا ما شخصًا يتحدث لغتك؛ كي لا تضطر لعيش حياتك محاولًا بلا جدوى ترجمة روحك)).**
ردحذفاقتباس جميل يصف الحال.
حذفأحببت انتقالك في السرد من قصة إلى أخرى في ذات المقالة...
ردحذفخشيت أن يكون هذا مشتتًا 😅 جيد أنه أعجبكم 🌹
حذفصحيح والله لا تجد من يحتفي بالفائدة كاحتفائك بها، وأحياناً تعلم هذا يقيناً لكنّك لا تستطيع تجاوز هذه المرحلة -حبّ مشاركة الفائدة- فتنتكس بعد عزيمتك، وتشارك الفائدة، وردّة الفعل الباردة أو الضّجِرة -كالعادة- تجعلك تريد عضّ أصابعك ندماً.
ردحذفدائماً أجد هذا في نفسي، ولا أستطيع التعبير عنه.
حفظك الله وأبقاك.🌹
نعم هذا مما يخفت به نور الفائدة، جمالها وبريقها في مشاركتها
حذف"كنت أردّ المدحة، فيزيدُ المادح فيظنني أتواضع، وهذه أشد، فبعد سنوات توصلت إلى أن أسكتَ عن المديح: قل ما تشاء، وسأنتقل لموضوع آخر بمجرد أن تنتهي."
ردحذف👍🏻👍🏻👍🏻👍🏻👍🏻
💐💐
حذفلا اخفي عليك يا خالد انا كنت متحمس اشوف مدونتك بعد اختباراتي الثانوية
ردحذفمع انه ممكن اختلف او اتفق مع كلامك لكن طريقة كتابتك ممتعة واستطرادك بالمواضيع حلو واهتماماتك تعجبني وعشان كيذا لما افضى اقرأ المدونة
وتذكر
٣٦٦٦- لاَ بُدَّ لِلْمَصْدُورِ أَنْ يَنْفُثَ
مجمع الأمثال
سلمك الله ووفقك في اختباراتك 🌹🌹
حذف