مقهى أثينا
في واجهة مقهى أثينا، المرتكز وسط ازدحام المدينة، تصطفّ تماثيل بلغت غايةَ الإتقان، تصوّر أناسًا يحتسون القهوة، لا يُعلم من نحتها؛ ولكن العامّة والنقّاد اتفقوا على أمر واحد: أن وجوه التماثيل الغاضبة مُعجزة في الإتقان الفنّي.
عند آخر الشارع نرى رجلًا مُقبلًا إلى المقهى بخطى غاضبة، لا نعلم سبب غضبه، وأسباب الغضب كثيرة في صيف هذه المدينة، حين بلغ المقهى لم يُمسك قبضةَ الباب ولكن دفعَها دفعًا، فانفتح الباب بقوة مبتعدًا عن راحة يده، التفت الجالسون في المقهى إلى هذه الكَركبةِ التي ضجَت من جهة المدخل، واستقبلَه النادل بابتسامةٍ معهودة؛ لكن الرجل رأى خلفَها سيلًا من التوجيهات والعتب على فعله، فبادرَه قائلًا بانفعال لا يُزايَدُ عليه:
- ما لك تبتسم كالأبله؟!
ردّ النادل بصوت هادئٍ متودّد:
- تفضّل؛ كيف أخدمك؟
قال الرجل وقد غِيظَ من النادل المتصنّع:
- وهل عندكم شيء غير القهوة؟ هات قهوة عليك اللعنة!
لم يغيّر النادل نبرته، ولم يمسح ابتسامته، بل قال كأنه لم يُقاطَع:
- بالطبع يا سيدي، تفضل بالجلوس.
وأشارَ بتهذيب إلى طاولة في بقعة لا تصلها الشمس، التفتَ الرجل إلى حيث أشار النادل، فوجد طاولةً تبدو -لمن يلاحظ- أغمقَ قليلًا وليست في موضع متناظر مع بقية الطاولات، لم يرتح الرجل، ولا يعلم سبب انزعاجه، مشى إلى طاولته، وشعر أن أعين الناس بدأت تسهو عنه وتعود لشؤونها.
بعد وقت قصير جاءه النادل بفنجانِ قهوة بالحليب، وكان الفنجان أبيض كأنه بيضة نعامة، ووضعه أمام الرجل، لكن الرجلَ لم يطلب قهوةً بالحليب! فتميّز من الغيظ، وانتفخ سَحْرُه من الغضب، وقال بصوت مجلجل:
- أيها الأحمق! أنا لم أطلب هذا!
وضرب الكوب بظاهر يده، ولكن بمجرد أن لمس الكوب جلد يده حتى توقف الزمن، وحالت الدنيا ظلامًا، ولم يعد يرى شيئًا غير الطاولة والكوب والنادل الواقف، الذي تحوّل وجهه إلى وجهٍ ميّت لا ظلّ لقسماته! ولا يعلم أمرّت ثانيتان أم سنتان، أو لعلّها قرون، بدأت يده تَحُولُ رُخامًا. يصرخ ولا يسمع صوته، يحاول القيام فتخذله رجله المتحجّرة، تدرّج الرخام حتى بلغ عينه اليسرى الهَلِعة ثم عمّ جسدَه، قال النادل:
- أهلًا وسهلًا بك يا سيدي؛ أصبحتَ الآن جزءًا من مقهانا، مقهى أثينا.
ما زال مقهى أثينا يجتذب الزبائن بما يرونه من بديع التماثيل الغاضبة التي تصطفّ على واجهة المقهى.
من هول الصدمة أعدت قراءة القصة ، شكرا حقا لمشاركتنا ما تكتبه.
ردحذف