الوحدة
كنت أقرأ قديمًا عن الوحدة، وأن الوحدة هي شعورك بالانفصال عن محيطِك ثقافيًا، فربما يكون الإنسان جالسًا وحده وهو في شعور رائع، ويكون مع الناس ويشعر بالوحدة.
هذا كله هُراء مَحْض، الإنسان المنعزل انعزالًا تامًا عن البشر ربما يشعر بحريّة في بداية انعزاله، ولكن ما يلبث أن تضيق عليه نفسه، فما يشعر بشيء، ويُغامُّ على ذهنه، فيشعر بعجز لا في جسده؛ بل في نفسه، فتخيل أن تكون النفس الوحيدة التي تتفاعل معها هي نفسُك، ومع ذلك تضيق ذرعًا بها وبأفكارِها السوداء.
أنا مُعلّم كما تعلمون -معلّم وظيفةً لا قدوةً كالطنطاوي- كنتُ ضائق الذرع بالمدرسة خلال الفصل الثاني، لا بسبب الطلاب أو الزملاء، بل لأني لا أستطيع أخذ كفايةَ نومٍ، وإذا أخذت كفايةَ نوم لم يبق لي من يومي إلا سويعات أجاهد فيها التعب حتى يحين وقت النوم.
فانتظرت العطلة انتظار أهل الغائب لإيابه، فلما نزلت بنا العطلة، أطعمتُها من ساعات أيامي ما لو كانت عشبًا لأربت على حاجة الفيل!
ولكن لم أشعر أنني فقدت شيئًا مهمًا كان يملأ حياتي ويستجمّ به ذهني، وهو محادثة الزملاء والتفاعل مع الطلبة، فكان الأمر أن انتقلت من مقابلة خمسين إنسانًا في اليوم، إلى مقابلة لا أحد!
مرّت الأيام أظلّ بها ساكتًا لا أسمع إلاتخيلات يصنعها ذهني، وفي هذه الساعة أحاول استذكار آخر حوار مطوّل بيني وبين إنسان، وهو الحوار الذي يعيد للنفس نشاطها، فما أجدني كلمت أحدًا منذ ستة أيام! وقبل تلك المحادثات لم أكلم إنسان لأسبوع، عرفت معنى المُجتمع.
كان ضيق الذرع بالعُطَل يصيبني يوم كنت في الجامعة، فكنتُ أتعمّد تسجيل المواد في الصيف كي أقضي الصيف في مجالات ثقافية وإن كانت موادًا، كنت أستمتع بالحضور وكأنني أحضر ندوات، ثم وقت الامتحان لا أجتهد، فأخرج من الصيفيّ بتقديرات يشيب لها الغراب، ويصلع لها عِثوَلُّ الضِباعِ القشاعمِ!
نترك مصيبتي بدرجاتي ونعود، أقول إنني أمارسُ عجيبةً لم أسمع أحدًا يتكلم عنها، قد تسمع بمن يجعل له يومًا لرياضة، أو يومًا يركب فيه البحر، ولكن رجلًا له يوم واحد يتحدث فيه إلى مخلوق!
ومشيت يومًا في الشاطئ وحدي، فأردت التمثل ببيت المتنبي:
وحيدٌ من الخلّان في كلّ بلدةٍ
ثمّ تبسّمت، وودت لو خنقتُ المتنبي، فإنه أكمله بعلة وحدته:
إذا عظُمَ المطلوب قلّ المساعدُ
ليست هذه علة وحدتي يا أحمدَ بن الحسين! كأني به يلتفت إلي ويقول:
أعرف علّتك، علتُك ليست عِظَم المطلوب، بل الإجازة الصيفية!
فأجيبه:
كلّ له علة يا علة، ولكنني سأعدل بيتك ولن تُمانع:
وحيدٌ من الخلّانِ في كلّ بلدةٍ
ويشقى بعُطلاتِ المَصيفِ المُوَظَّفُ
ربما أفسدتُ البيتَ أيّما إفساد، لو كنت استشهدت ببيت الخليع ثم عدلت فيه، وهو قوله:
كأني وحيدٌ لا يُسَرُّ بمؤنِسٍ
من الناسِ حتى تنقضي الأشهرُ الحُرُمْ
فأقول:
كأني وحيدٌ لا يُسَرُّ بمؤنِسٍ
من الناسِ حتى تنقضي هذه العُطَلْ
ولكن أشعر أن المعنى صار غبيًا، فالمعنى الذي أريده أني وحيد يبحث عن الناس، لا أنه لا يُسَرّ بمؤنس! عمومًا شاعر لقبه الخليع ماذا ترجون منه؟ ماذا؟ أنا المخطئ ليس هو؟ نعم هذا ما قلتَه يا قارئي العزيز، خذ إذن هذه النقطة التي أنهي بها مقالتي •
🌹🌹
ردحذفإذا تزوجت إن شاء الله أصبحت العطلة فسحة حقيقية منتظرة.. رزقك الله المتاع الصالح..
ردحذفجميل هذا المقال 🙌🏻 لكن اللي كتبته في البداية، الوحدة مش شعور انك منفصل عن الناس وانت بينهم؟ إذن ما تسمي ذا الشعور؟
ردحذفلا أعرف مسمى له، لكن وقتها تحس بفراغ وراسك يُشَوش وتستثقل الأصوات اللي تسمعها، وقتها يمكن يتمثل البيت اللي ذُكر : كأني وحيدٌ لا يُسَر بمؤنسٍ
رزقنا الله الصحبة الصالحة
يمكن العلة الفراغ الذي يجبرك على خوض كل حديث مؤجل، على العموم مقال ممتع
ردحذفبارك الله فيك و نفع بوقتك و حياتك
ردحذفمقال رائع.🌹
ردحذفلكن لا أرى أن يقتصر المرء على علاقات الوظيفة أو ما شابه، اجعل لك أصدقاء تأنس بهم في العطل، والأهم أن تتزوج(: رزقك الله في عافية.