لو كانت القراءة فعلًا عاديًا
دخلت المقهى وأحمل في يدي كتابَيين كعادتي، أذهب للمقهى مغيّرًا من أجواء غرفتي ومكتبي، دخلت وأردت الطلب ورأيت البائع يبتسم وينظر إلى ما بيدي، فسألني باللغة الانجليزية عمّا أقرأ، فمددت له الكتابَيْن لينظر فيهما.
كان الكتاب وهو الذي شدّه مانجا بوكيمون الجزء الثالث، وذلك لأن بوكيمون أشهر من نار على علم، فقد عرفه هذا البائع، وربما شعر ببعض الحنين للطفولة، والآخر الحب الأول لتورغينيف، فجعل يُظهر سعادته برؤية الكتب، وانضمّت لنا زميلته، يسألان عن الكتب، وأنا أجيبهم بلغتي الانجليزية الضعيفة، كل القواعد كانت خطأ، والألفاظ تؤدي الغرض، والجمل بغير روابط، عقدة اللغة لن تُحلّ. نظرا في الكتابَيْن وتصفّحاهما، وسألا عن عنوان رواية تورغينيف: first love. ثم قال لي البائع: "هذه أول مرة أرى فيها أحدًا يقرأ الكتب هنا." لعله يُبالغ أو يقصد قراءة كتب لأجل القراءة لا الدراسة.
كتبت هذه الأسطر مباشرة بعد جلوسي، أريد تسجيل هذا الموقف اللطيف، وأريد أن أسجل شيئًا لطالما وجدتُه أهمّ من تحبيب الناس بالقراءة، وهو تطبيع القراءة حتى تصبح كالحديث واللعب، وقد كانت كذلك ولكن الناس تركوها حتى صارت خاصة بفئة المثقفين، وعندها صار هؤلاء القراء يشعرون بتميزهم وأن لهم حق الوصاية على البشر، وصرنا نمشي على حبل مضطرب، لأن هذا المثقف ليس بالضرورة أن يكون حكيمًا.
الألقاب لا تُلبِس الإنسان حقيقتها، كلّ إنسان يستطيع ادعاء الثقافة، وتسميةَ نفسه بالمثقف، وهذا من بلاء الألقاب، ولو كان تعامل الناس معها على قدرِها بأنها مجرد ألقاب ومحكّ الحقيقةِ عند الاختبار لهان الأمر، ولكنّ الناس يُعاملون صاحب اللقب بما يقتضيه اللقب، فخذ هذا مع سهولة التلقيب؛ يخرج لك الخواء وانعدام الملامح لكل شيء في الدنيا.
وَصْلٌ لما انقطع.. استاءَ بعض الإخوة من قراءتي وكلامي في مثل مانجا بوكيمون، وأنها لا فائدة منها، أو هي من الخيال الذي لا ينفع ولا يعلّم ولا يدعو إلى فضيلة.. يصدق هذا التوبيخ لو كنت أدّعي أنني أستفيد استفادةً ماديةً أو خُلُقيّة من هذه القراءات، ولكن الحقّ أن الإنسان حين تضيق عليه دُنياه جِدًا (من الجِدّ لا التكثير) فإنه يحتاج ترويحًا يطلب منه محضَ المُتعة، ترويح يهبّ بَلِيلًا على أرضِ خيالِه الخصبِ التي أجدبَتها الحياة العملية.
مع ذلك لو وُجّهَ هذا التوبيخ لغيري ممن يخشى أن يوسَمَ بالتفاهة وإضاعة الوقت لقال: "بلى! الرواية والقصة المصورة تنمّي الخيال، وتشحذ الذهن، وتقوّي المنطق والربط." ولو قال ذلك لصدق؛ ولكنّه يُخادع نفسه لأنه غير راض في قرارة نفسه أن تكون الروايات مبلغ علمه فيجهد في جعلها محور الوجود، لا تفعل ذلك وكن صريحًا أمام نفسك، لأني لن أصدّق أن إنسانًا يقرأ في رواية لكافر لا دينَ له، ويدّعي أن اكتسب بذلك فضيلة، لو كان محقًا لعرف من أين يستقي.
النخبوية في القراءة تُزعجني، لا أحبّ أن أتميّز بشكل مُفتَعَل-ولا غير مُفتَعل طلب التميّز مرض يحتاج مقالةً منفصلة-، افتعال النخبوية هي التي رسمت صورة المثقف ثقيل الدم الذي يحتسي القهوة السوداء صباحًا -والتي سيشتكي من ارتفاع الحموضة بسببها- ولا يتكلم إلا بأسماء فلاسفة -الحمقى الذين يعظّمهم-، حدث ذلك لوهم عامة الناس أن القراءة هواية خاصة، فيقول أحدهم: "أنا لا أحبّ القراءة." لو كان الناس كلهم يقرأون الكتب بشكل عفوي طلبًا لما فيها لما حدث كل ذلك.
وهكذا أديرُ عيني في الناس فأقول: ماذا لو كانت القراءة فعلًا عاديًا؟
لو كانت القراءة فعلًا عاديًّا، لانكسرت هالة التميّز المزيّفة التي أحاطها بها المتفاصحون، ولغدت فعلًا فطريًّا كالشرب حين يظمأ المرء، أو السير حين تدعوه الحاجة. لا يطلبها القارئ رياءً، ولا يزهد فيها الجاهل استكبارًا، بل يسعى إليها كل امرئ بطبعه، ينهل منها كما ينهل من نسيم الصباح أو من ضوء النهار. عندئذٍ، تُمحى صورة "المثقف المتكلّف" الذي يتفيهق بأسماء الفلاسفة، وتغدو المعرفة مشاعًا بين الناس، يتبادلونها كما يتبادلون أطراف الحديث في السوق والمجالس. ولن يُقال بعد ذلك: "أنا لا أحبّ القراءة" بنبرة من يبرّر جهله، بل تُقال – إن قيلت – كما يُقال: "لا أميل إلى ركوب الخيل"، مجرّد ذوقٍ لا يقدح في قدر صاحبه ولا يرفعه.
ردحذفصدقت صدقت، ولتمايز الناس ببصماتهم الثقافية كما تمايزوا بأطباعهم 👍🏻 شكرًا على مشاركتك
حذفجميل وفقكم لكل خير شيخ خالد 🌹🤍
ردحذفالقراءة ليست فعلا عاديا ولا روتينا يوميا، بل هي أعمق من مجرد فعل مكرر أو عادة. الأشياء العادية تصبح مملة عندما تتكرر وأنا لا أرى القراءة هكذا مهما صارت عادة يومية... القراءة حياة أخرى نعيشها مرة واحدة. 🤍
ردحذفلم أعنِ أنها تكون فعلًا له صفة الروتينية كغسيل الوجه عند الصباح، وإنما فعلًا يمكن إنفاذه بعفوية من غير إثقاله بالطقوس والهالة المنفّرة، فيُقبَل أن يكون عميقًا أو ترفيهيًا أو أي شكل يحتاجه الإنسان.
حذفI can feel u :)
ردحذفI appreciate that. ☺️🌻
حذفمرحبا سيد خالد،
ردحذفأثمن مقالك ابتداءً، وأرى الجواب في القصة ذاتها؛ حين صار حمل الكتب في المقهى أمرا شاذا يستوجب الانتباه والتعليق، ويمثل مدخلا للنقاش في أمر ينبغي أن يكون مألوفا في مجتمع عربي إسلامي.
مر بي موقف مشابه، كنت أقرأ في "الكافيه" كتابا دسما، وإلى جانبي فتاة تلخص بقلق استعدادا لامتحانها غدا، وربما لتشتيت نفسها عن كتابها وتلاخيصها. التفتت إلى الكتاب بيدي، وضحكت، ثم سألتني ما تخصصك؟ وهل لديك امتحان غدا؟
قلت لها لا، وإنني أنهيت دراستي الجامعية منذ زمن، وأقرأ لإشباع رغبة وفضول معرفي لا أكثر. فابتسمنا وصمتنا.
وأحسب أن هذا الصمت يعكس واقعا فرضته ثقافة جعلت القراءة قسرا وتكليفا، فتبددت بذلك روح القراءة وحُجبت حقيقتها؛ فحصرها في دائرة الدراسة والواجب يقتل ذاتها، ويجعلها مكدسا من المعلومات بلا عقل يفهمها ولا نفس تحياها، ويخلو منها البعد الإنساني والوجداني الذي يغذي القارئ حق التغذية ويشبع جوعه الفكري الفطري.
ولو أصبحت القراءة فعلا أمرا عاديا، لانكسرت أوهام النخبة، وعادت الكتب إلى مكانها الطبيعي في حياة الناس، بين مجالسهم وأزقتهم وفي حيواتهم اليومية، ويُقاس الفكر بعمقه وثرائه لا بعدد ما قرأ صاحبه، ويُعترف به بثمرته لا بأغلفته.
شكرا لكم، وبوركتم.
نعم صدقتم، ارتبطت الكتب بالدراسة، والدراسة فعليًا لا تقدم حقّ ما تقدمه الكتب، هي تعطي مفاتيح العلوم.
حذفوقد حدث معي كالذي حدث معكم، إذ كتبت بحثًا في العَروض فقال لي أحد الزملاء: أنت تدرس ماجستير؟
البحث والترقي في العلم صار مرتبطًا بالشهادة كذلك!
جميل
ردحذفأحب حين تقرأ أمورًا لا تعجب الناس، أشعر أن القارئ الحقيقي هو الذي يقرأ ما يختاره هو وليس ما يضعه الناس في قوائم مرتبة ويستحسنونه، قبل أيام كنت أقرأ كتابا دينيا مع مجموعة ثم أقرأ خلسة منزل الجميلات النائمات، كونهم لا يقرأون مثل هذه الكتب في مجموعات، وتمنيت لو نقرأها وثم نتناقش حول الشخصيات وطريقة السرد، وشعور الزائرين للمنزل، وشعور النائمات، أن نتحدث طويلا عن نهاية القصة، كوني أكره النهايات المجتزءة ولا أفهمها
ردحذفنعم، السير على القوائم لا معنى له في القراءة العامة، ينفع في التخصص وطلب العلم وليس سمةً توسم بها القراءة.
حذفالجميلات النائمات لكاواباتا؟ ما قرأتها الى الآن، تنصحون بها؟
نعم لكاواباتا، لا أعلم إن كنت تحب الروايات التي قصصها غريبة لكن تعجبني غرابتها، أحب الروايات التي تحكي فيها الشخصيات عن شعورها، عن منزل يستقبل كبار سن عاجزين يدفعون المال لتأمل فتيات نائمات، غابرييل ماركيز كتب لها مقدمة وقال انها من الروايات التي تمنيت أني كتبتها، ثم كتب رواية مشابهة سماها ذاكرة غانياتي الحزينات، لو قرأت النائمات سوي لها مراجعة في نديم يهمني أعرف انطباعك عنها
حذفلم تكن يوماً القراءة فعلاً عادياً و إلا لم يبدأ الأمر ببداية الوحي بـ " اقرأ " ، ماذا لو كانت ممارسة الإطلاع و قراءة الكتب "سلوك /عادة" في حياة المسلمين لأنهم أحق الناس بذلك دون تميز و طبقية و نخبوية فارغة :) .. دمتم بود .
ردحذف@Zaheyaa
عنيت بالعادية أي تكون فعلًا لا يُستنكر ولا يُستغرب، فعل نفعله خفيفًا كما نفعل أي عادة، ولا شكّ أن القراءة هي أكبر بوابات الوعي والمعرفة.
حذف