الجمعة، 20 يونيو 2025

ضحوةُ ليلة السأم الخَلّاقة

ضَحْوة ليلة السأم الخَلّاقة


اطلعتُ البارحة لأختار كتابًا خفيفًا لأقرأه على خمسة كتب: منتصف الشتاء في وادي المومين، ولاعب الشطرنج، والليدي سوزان، والليلة العجيبة، يوم الاثنين أو الثلاثاء. واليوم أكملت الاختيار بالاطلاع على ثلاثة كتب أخرى.

الكتاب السادس: تربية النحل حسب صمويل بيكيت، لمارتان باج، شدّني لهذه الرواية ثلاثة أمور: الغلاف الجذّاب، والحجم الخفيف، والموضوع المتمحوّر حول كاتب مشهور، فقد قرأت قديمًا رواية: ساعي بريد نيرودا، وكانت رواية جميلة لتعلّقها بالشاعر التشيلي بابلو نيرودا، وأذكر أنني اشتريت الرواية في معرض الكتاب كنت واقفًا عند دار المتوسط أتحدث إلى أحد أصحابي عن حبي لهذا النوع من الروايات، وكانت البائعة تستمتع لحديثنا دون أن أعلم، فدخلت بيننا وقالت: لدينا كتاب من هذا النوع، وأخرج رواية: تربية النحل حسب صمويل بيكيت.

الرواية مسرودة على أسلوب اليوميات، باحث دكتوراه في الأنثروبولوجيا تُسرق محفظته، فيصادف وجوده أمام مكتبة، فقال له صاحب المكتبة: لدي عمل، الكاتب صمويل بيكيت يحتاج لموظف يعينه على أرشفة أوراقه. وتبدأ هنا القصة حين يلتقي بصمويل بيكيت ويصفه ويصف تحركاته وأفكاره عن الكتابة، هذا مطلع الرواية وأجواؤها، جميلة حقيقة.

الكتاب السابع: مارك توين: سيرة ذاتية، قرأت بداية هذه السيرة، وأصنف الكتاب -إذا استمرّ على هذه الوتيرة- من الكتب اللذيذة! كتاب خفيف لطيف، ومطبوع بحجم للجيب من دار كلمة، وفي أول عشر صفحات ظهرت روح مارك توين المرحة، التي ذكرتني بإبراهيم المازني، وكان المازني مولعًا بمارك توين، وترجم له، وسرق منه!

من اللطائف وأنا لم أقرأ سوى عشر صفحات، قال توين:

كثيرًا ما قيلَ لي إني كنتُ طفلًا عليلًا ضعيف الجسم، متعِبًا لمن حولي، لا يستقرّ لي وضع على حال، وإني كنت أعيشُ في الدرجة الأولى على الأدوية في السنوات السبع الأولى من حياتي. ذات مرة سألتُ والدتي عن هذا الأمر، وكانت وقتها عجوزًا في الثامنة والثمانين، قلت:

  • أظنّ أنك كنتِ طوال ذلك الوقت خائفةً وقلقةً بشأني؟
  • نعم، طوال الوقت.
  • كنتِ تخشين ألا أبقى على قيد الحياة؟

بعد صمت وتفكير قالت:

  • بل كنتُ أخشى أن تبقى.

الكتاب الثامن: تحريّات أكيشي كوغورو، لإيدوغاوا رامبو، قصص قصيرة بوليسية، كتبها تارو هيراي، وسمى نفسه إيدوغاوا رامبو محاكاة لاسم كاتبه المفضل إدغار آلان بو.

لعل هذا الكتاب أقل الكتب التي شدّتني، القصة الأولى للمتحري أكيشي كوغورو، بالمناسبة من هذا اقتبس غوشو أوياما في المحقق كونان اسم موري كوغورو أبو ران، واقتبس اسم إيدوغاوا كونان من دمج اسم إيدوغاوا رامبو وآرثر كونان دويل مؤلف مغامرات شارلوك هولمز، والدكتور أجاسا ممن؟ صحيح؛ أجاثا كريستي! مقهى بوارو أسفل وكالة موري للتحريات، وغير ذلك، لو بحثتم في كونان ستجدون كثيرًا من هذه التضمينات.

تبدأ قصة تحريات أكيشي كوغورو -التي لم أكملها لأنها تقع في ثلاثين صفحة والقاعدة أني لا أتجاوز عشر أو خمسة عشر صفحة- بالراوي الذي يتحدث عن شخص قابله في المقهى، غريب أطوار له خيال بوليسي، وأن صديقة طفولة هذا المحقق تزوجت بصاحب مكتبة صغيرة.

مرّ الراوي بهذه المكتبة فوجدتها مفتوحة ولكن لا أحد يبيع فيها، والوضع هادئ هدوءًا مريبًا، وانتظر نصف ساعة ولم يظهر أحد، ثم يدخل أكيشي كوغورو ويتجرأ بالدخول إلى البيت فيجدون جثة مطروحة.. توقفتُ هنا ولم أكمل، ربما أكملها لاحقًا. بودي لو أشير هنا إلى لمحة تُحسب لإيدوغاوا رامبو

جميل، بعد أن اجتمع عندي تصوّر عن الروايات الخفيفة التي اخترتها، وهي ثمانية، الكتاب التاسع ألغيته، كان كتاب: أزهار عباد الشمس العمياء، بعد أن تصورت هذه الكتب جعلت أختار بطريقة الترند المشهور في التخيير، تختار واحد أم اثنين؟ واحد، واحد أم ثلاثة؟ ثلاثة، ثلاثة أم أربعة؟ ثلاثة، وهكذا، فوقع الاختيار في النهاية على.. (صوت طبول تشويقية) رواية الليلة العجيبة لستيفان زفايج! متحمس للرواية، لم يخيّب زفايج ظني قط، ولم أتحاوز رواية من رواياته يومًا.

الخميس، 19 يونيو 2025

ليلة السأم الخلّاقة

 ليلة السأم الخلّاقة


في ساعة من الليل، بلغ بي السأم مبلغه، كلّما التفتّ إلى الكتب التي أقرؤها أشعر أنني مكتفٍ ممتلئ متّخم منها، فأجلتُ نظري في مكتبتي المتكدسة التي لا رفوف لها ولا مكان لرفوف أصلًا، مكتبتي التي تساوي الأتربة فيها وزن الكتب، أجلتُ فيها نظري لعلي أجد كتابًا خفيفًا لطيفًا ينتهي سريعًا لا كالكتب التي أقرؤها الآن.

قطفتُ من هنا كتابًا، ومن هناك كتابًا فاجتمع في يدي تسعةُ كتب، وعزمي أن أقرأ مطالعَها والذي يشدّني إليه أستمرّ في قراءته.. غدًا.

أخبركم عن الكتب:

الكتاب الأول: من الأدب السويدي وهو رواية منتصف الشتاء في وادي المومين، لتوفه يانسون، اخترت هذا الكتاب أولًا لصغر حجمه يقع في ١٤٣ صفحة، والسبب الآخر أن أجواءَ سلسلة وادي المومين أو ما يسمى عندنا (وادي الأمان) دافئ جميل يغرق فيه القارئ بسهولة. وألفتُكم إلى أني لم أعرف في طفولتي وادي الأمان، لست من جيله، أنا من جيل سبيستون.

بداية الرواية جميلة، ولكن الإشكال أن هذا الجزء ربما السابع، والتسلسل مهم في القراءة لأنهم يقولون أن الشخصيات تتطور وتقديمها مهم، فلعلي لا أقرؤها، مع أنني انسجمت معها.

الكتاب الثاني: من الأدب النمسوي، للكاتب العبقري ستيفان تسفايج، لاعب الشطرنج، ومن لا يعرف لاعب الشطرنج؟ أنا عن نفسي قرأتها قديمًا، أو بالأحرى سمعتها صوتيًا، فمعرفتي بها قديمة، كأنها ممسوحة من ذاكرتي إلا بعض ملامحها، وقدَّمَها عندي أن هذه ترجمة الأديب الكبير يحيى حقي، وقد رأيت الفرق رأي العين بقراءتي مطلعها، لغة يحيى حقي جميلة راقية، أنقل لكم فقرة من بداية الرواية:

"وبالرغم من أن الليل كان قد تقدم فإن القسيس لم يستطع كبح جماح رغبته في أن ينازلَ تلميذه فغلبَه ميركو بسهولة. كان يدير اللعب ببطء وعناد وهدوء، له خطة محكمة لا تُنكَر، وفي الليالي التالية لم يفلح القسيس وهو يعلم مقدار غباء تلميذه في كل مجال آخر أن يعرف مدى هذه الموهبة الفذة، فقاد ميركو إلى حلاق القرية، فقص جمةً له في لون الهشيم، حتى لا تتقحّم منظرَه العيون، ثم صحبه في العربة الزحافة إلى البندر المجاور، إذ كان يعرف فيه رجلاً مهموماً بلعبة الشَطْرَنْجِ يجيدها خيرًا منه، ويعكف عليها الساعات الطوال في ركن من قهوة الميدان الكبير.

ودخل القسيس القهوة وهو يدفع أمامه فتًى لم يبلغ الخامسة عشرة…"

الكتاب الثالث: رواية الليدي سوزان لجاين أوستن، لطالما أردت القراءة لجاين أوستن، ولا يمنعني شيء ولكنّي لم أفعل. رواية الليدي سوزان رواية من أدب الرسائل، كالفقراء لدوستويفسكي، قرأت بدايتها، وتبدو لي ظريفة، في الرسائل نمائم كثيرة، وقد صُدمت من البداية بظنون أبطال الرواية ببعضهم، تقرأ هذه تعيب تلك عند أمها، ولكنها تمدحها عند زوجها، وهذه ترسل تطلب من أخي زوجها الاستضافة؛ وتظهر بغضها له في رسالتها لأختها، وهكذا، لا أخفيكم أني تحمست للفكرة، والعجيب أن الرواية كتبتها أوستن وعمرها ثماني عشرة سنة، ونُشرت بعد وفاتها بخمسين عامًا! الكتاب يقع في ١١٦ صفحة، ربما أختاره.

الكتاب الرابع: الليلة العجيبة لستيفان زفايغ، انطباعي لبدايته أنه أمسك بي! لا أدري ما حدث ولكنّي انشددت إلى الرواية من غير وعي مني، كنت خصصت ١٠ دقائق لكل كتاب، ومرت عشرُ هذه الرواية كأنها لمحة بصر، لا أدري حتى الآن ما أحداث الرواية، ولكنها بدأت برجل يكتب ذكرى حصلت معه قبل أربعة أشهر وغيرت حياته، الرواية ٩٩ صفحة.

الكتاب الخامس: مجموعة قصصية لفيرجينيا وولف، عنوانها: يوم الاثنين أو الثلاثاء وقصص أخرى. فيرجينيا وولف من الكاتبات اللواتي مر بي اسمهنّ كثيرًا في الجامعة، وبودي أن أقرأ لها شيئًا، فوجدتها فرصة. قرأت بداية القصة الأولى عن صورة فتاتين عاميّتين من الطبقة المتوسطة، وحياتهما الرتيبة التي كأنها عمل رجال تجارة في الرتابة والفحص غير أنها تدور حول الجلوس والطعام وأمسيات الحديث والنمائم، شدتني القصة ولكن لعلي لا أقرؤها لأنها لم تنافس الكتب الأولى، ولكن مع ذلك ألمحت فيرجينيا وولف إلى فكرة بارعة، كانت تدور في بالي زمنًا طويلًا، حين يتكلم أحد عن موقف حصل معه أحاول التفكير في هذا اليوم بالذات.. أنا أين كنت وماذا كنت أفعل؟ عندما حدثت أحداث برجَي أمريكا وأنا صغير هل يا ترى كنت نائمًا أم كنت ألعب؟ سأنقل لكم، قالت في قصة فيليس وروزاموند:

"سمعت أحدهم يقول مؤخرًا: "اسمحوا لكل شخص أن يكتب تفاصيل يومه من العمل؛ فالأجيال القادمة ستكون ممتنة لتوثيق ما ينبغي أن يكون عليه- لو أن لدينا شهادة عن كيف أمضى البوّاب في مسرح غلوب، والرجل الذي كان يحرس مداخل الحديقة- يوم السبت 8 مارس من عام 1568."

بالضبط! تخيلوا لو جربنا على نطاق ضيق أن نخرج يومياتنا في الكورونا ماذا سنجد؟ سأنقل لكم من يومياتي في كورونا:

"الجمعة ٢ أكتوبر ٢٠٢٠

بعد رجوعي من الفنطاس، اشتريت ماكينة حلاقة، وحلقت رأسي في سطح بيتنا، كانت تجربة مثيرة، في البداية كان الوضع مخيفًا ثم لما عممت الحلاقة على شعري شعرت براحة كبيرة."

ظريف، كانت تجربتي الأولى لحلاقة رأسي بنفسي، ماذا فعلتم في ذلك اليوم بعينه؟ من كان يكتب يومياته سيجد المقارنة غايةً في الطرافة، ربما يكون جالسًا هانئًا في فناء منزله يحتسي قهوةً، وأنا في نفس الساعة أجاهدُ أن أوازن بين رأسي وبين مكنة الحلاقة، أليس ذلك ممتعًا؟

الأحد، 15 يونيو 2025

مقهى أثينا

 مقهى أثينا

في واجهة مقهى أثينا، المرتكز وسط ازدحام المدينة، تصطفّ تماثيل بلغت غايةَ الإتقان، تصوّر أناسًا يحتسون القهوة، لا يُعلم من نحتها؛ ولكن العامّة والنقّاد اتفقوا على أمر واحد: أن وجوه التماثيل الغاضبة مُعجزة في الإتقان الفنّي.


عند آخر الشارع نرى رجلًا مُقبلًا إلى المقهى بخطى غاضبة، لا نعلم سبب غضبه، وأسباب الغضب كثيرة في صيف هذه المدينة، حين بلغ المقهى لم يُمسك قبضةَ الباب ولكن دفعَها دفعًا، فانفتح الباب بقوة مبتعدًا عن راحة يده، التفت الجالسون في المقهى إلى هذه الكَركبةِ التي ضجَت من جهة المدخل، واستقبلَه النادل بابتسامةٍ معهودة؛ لكن الرجل رأى خلفَها سيلًا من التوجيهات والعتب على فعله، فبادرَه قائلًا بانفعال لا يُزايَدُ عليه:

  • ما لك تبتسم كالأبله؟!

ردّ النادل بصوت هادئٍ متودّد:

  • تفضّل؛ كيف أخدمك؟

قال الرجل وقد غِيظَ من النادل المتصنّع:

  • وهل عندكم شيء غير القهوة؟ هات قهوة عليك اللعنة!

لم يغيّر النادل نبرته، ولم يمسح ابتسامته، بل قال كأنه لم يُقاطَع:

  • بالطبع يا سيدي، تفضل بالجلوس.

‏وأشارَ بتهذيب إلى طاولة في بقعة لا تصلها الشمس، التفتَ الرجل إلى حيث أشار النادل، فوجد طاولةً تبدو -لمن يلاحظ- أغمقَ قليلًا وليست في موضع متناظر مع بقية الطاولات، لم يرتح الرجل، ولا يعلم سبب انزعاجه، مشى إلى طاولته، وشعر أن أعين الناس بدأت تسهو عنه وتعود لشؤونها.

بعد وقت قصير جاءه النادل بفنجانِ قهوة بالحليب، وكان الفنجان أبيض كأنه بيضة نعامة، ووضعه أمام الرجل، لكن الرجلَ لم يطلب قهوةً بالحليب! فتميّز من الغيظ، وانتفخ سَحْرُه من الغضب، وقال بصوت مجلجل:

  • أيها الأحمق! أنا لم أطلب هذا!

وضرب الكوب بظاهر يده، ولكن بمجرد أن لمس الكوب جلد يده حتى توقف الزمن، وحالت الدنيا ظلامًا، ولم يعد يرى شيئًا غير الطاولة والكوب والنادل الواقف، الذي تحوّل وجهه إلى وجهٍ ميّت لا ظلّ لقسماته! ولا يعلم أمرّت ثانيتان أم سنتان، أو لعلّها قرون، بدأت يده تَحُولُ رُخامًا. يصرخ ولا يسمع صوته، يحاول القيام فتخذله رجله المتحجّرة، تدرّج الرخام حتى بلغ عينه اليسرى الهَلِعة ثم عمّ جسدَه، قال النادل:

  • أهلًا وسهلًا بك يا سيدي؛ أصبحتَ الآن جزءًا من مقهانا، مقهى أثينا.


‏ ما زال مقهى أثينا يجتذب الزبائن بما يرونه من بديع التماثيل الغاضبة التي تصطفّ على واجهة المقهى.

الخميس، 12 يونيو 2025

تحدي القراءة وحديث عن الندم

تحدي القراءة وحديث عن الندم

في مطلع كلّ عام أتنشّط لوضع رقم لعدد الكتب التي أنوي قراءتها، وأنظر إلى تقدّمي بعد مرور ستة أشهر، هذا من باب التحفيز، فحين تضع لنفسك مراتب ترقاها في أي عمل فإنك تتحمّس لإنجازه.

السنة الماضية أنهيت واحدًا وأربعين كتابًا، وقد تأخرت وأظلّتني نهاية العام قبل أن أستوفيَ الأربعين، فنحوتُ إلى الكتب الصغيرة، وكانت فيها فائدة.

نظرة سريعة إلى عام ٢٠٢٤ القرائي، أجد أولًا أقصر كتاب قرأته كان كتاب الدارات للأصمعي، وهو كتاب يذكر فيه الأصمعي الدارات جمعُ دارة، وهي المكان المتسع بين جبلين، يقع الكتاب في تسع صفحات. وأطول كتاب كان الجزء الثالث من أغنية الجليد والنار عاصفة السيوف، كتاب مهم في السلسلة، يقع في جزأين، بمجموع ستٍّ وسبعين ومئتين وألف صفحة.

أشهر كتاب قرأته وقرأه الناس رواية مباريات الجوع the hunger game لسوزان كولنز، يعرفه أكثر من ١٢ مليون قارئ! وأغمر كتاب قرأته كان ديوان عَبيد بن الأبرص، يبدو أنه لم يقرأه غيري على موقع Goodreads.

أول رواية قرأتها في عام ألفين وأربع وعشرين كانت البطل الصغير وقصص أخرى لدوستويفسكي، أذكر تلك الفترة كنت متعبًا وتركيزي واستيعابي لما أقرأ كانا يُجهدان أعصابي.

وآخر كتاب قرأته في تلك السنة كان ديوان طرفة بن العبد، وختمت السنة على ذلك، ووضعت الهدف الجديد لعام خمسة وعشرين؛ أربعين كتابًا، فهل قرأت نصف العدد اليوم وقد انتصفنا العام؟

بعد مرور ستة أشهر، قرأت ستة كتب فقط، والسبب أنني بداية السنة مررت أيضًا بظروف منعتني من الاسترسال في القراءة، فتأخرت قراءاتي كثيرًا والله المستعان، لم أزل أحاول العودة إلى سيري الطبيعي.

حاولت قراءة كتبٍ سهلة كروايات أجاثا كريستي وكان لها أثر جميل جيد حقيقة، قرأت لها (جريمة عيد الميلاد)، و(جريمة في قطار الشرق)، يا سلام على رواية (جريمة في قطار الشرق) برعت فيها أجاثا براعةً قلّ نظيرُها. يعين الله على إتمام الهدف، الهدف ليس مطلوبًا لذاته، ولكنه تسلية جميلة على موقع Goodreads.

حين يمرّ الإنسان بظروف ويتجاوزها فعليه ألا يلوم نفسه على التأخر، وينسى ظروفه التي تسببت تأخّرَه، بل يعذر نفسه، ولا يقول: لو فعلت كذا لما كان كذا، وتذكر قول ابن مسعود: لئن أعضّ على جمرة حتى تبرد؛ أحبّ إلي من أن أقول لشيء قد قضاه الله: ليته لم يكن.

وهذا الأمر في الحياة كلها، لا تتحسر على ما مضى وتندم عليه، وتذكر أنك لم تفعل ما فعلت اعتباطًا وإنما كانت حياتك تدور في مدار مختلف عما تدور فيه اليوم.

بعض الناس يستسخف تصرفاته أيام الكورونا، ويقول: كيف كنا نفكر حين كنا نغسل المؤن حين تصل من السوق؟ كنا في الكورونا في حالة من الهلع أو الخوف من المجهول، والخائف من المجهول يطمئن نفسه بأمرين: إما أن يترك الخوض في المجهول، وهذا متعذر في جائحة شملت العالم كله، وإما أن يحتاط حتى يطمئن، وهذا ما كنا نفعله في الكورونا، فلا تستسخف تصرفاتك بعد انكشاف الغمة ومعرفة الأمر على وجهه الصحيح.

الأربعاء، 11 يونيو 2025

ترنّم الكَوْئي

ترنّم الكَوْئي


هذه مقالة أكتبها والساعة تمّت واحدةَ منتصفِ الليل، الهدوءُ رابضٌ في العالم، النجوم ساهمةٌ في صفحة الليل السوداء، أريد أن أخبركم عن شعور لمَعَ في خاطري.

كنتُ امرءًا شغوفًا بالفائدة، أطردُها حيثما كانت، تُنجِد فأُنجد، وتغورُ فأغور، حتى أظفرَ بها، ولحظة الظفرِ بها يتّسع الأفق حولي فجأة، فأجدُ شبيهاتِ هذه الفائدة؛ أمهاتها وبناتِها، أمرّ بهن مرورَ الواله الشَغوف، أجمعُها حتى لا أكادُ أعيها كلّها، ولكنّي أخشى انطفاءَةَ هذه الشعلة من الشَغَف بالمعلومة الجديدة.

وبعد اتّساقِ اندفاعي الشَغوف أجوزُ إلى المرحلة الثانية، أريد أن أشارِكها أحدًا، ألتفتُ يمنةً ويسرةً أبحثُ عمّن يُقدّر هذه الفائدةَ كما قدّرتُها، ينبهر بها كما انبهرت بها من غير مجاملة، تكون نَوّارةً في ذهنه حقًا لا ادّعاءً، وغالبًا أخيب عند هذه المرحلة، فلا أجد من أشاركه هذه المعلومة الشاردة، أو ذاك البيت البارع، أو تلك العبارة الرشيقة، غالبًا لا أجد أحدًا حولي في الواقع ولا في المواقع.

لمعت هذه الخاطرة في ذهني لأني في الليلة الماضية لم أستطع النوم من الحماس لقاعدة فهمتها في إحدى اللغات، واستطعتُ ربطَها بقاعدة في نحو اللغة العربية، من شدة فرحي بها ما استطعت النوم إلا غِرارًا.

هذه من مواجع الثقافة، من مخايب القراءة، تقرأ وتتزوّد ثم يبقى ما قرأت وما تثقّفتَه حبيسَ صدرك لا تشاركه أحدًا، ليس بخلًا منك ولكن هذا الشخص ليس موجودًا.

إن مثلي في بحثي عمّن يراجعني معاطاة الجمال كمثل طائر الكَوْئي، أتعرفون طائر الكَوْئي؟ هذا طائر كان منتشرًا في جزر هاواي، وتناقصت أعداده، حتى انقرض، الحزين في قصته أن عندنا تسجيلًا يتيمًا لتغريدته الأخيرة قبل انقراضه عام ١٩٨٢، اسم الطائر Kauaʻi ʻōʻō كاو إي آو آو.

أحيانًا أقتبس من كتاب أقرؤه عبارة أو فائدة لفتت انتباهي، أكتبها مع اسم المؤلف ورقم الصفحة ثم ألقيها في قناة على التليغرام أو في تويتر -أيامَ كنت أغرّد فيه-، أو في غيرهما، ولا أخفيكم أن شعوري عندما أنقلُ لمواقع التواصل فوائدَ مما أقرأ هو شعورُ قاذف الصخرة في عُرض البحر، أو نافخ الدخان في الهواء.

حتى هذه المقالات أحب تفاعل القارئ معها، وأبياتي التي أكتبها، أحب أن يتحدث سامعي عن معنى أعجبه فيها، ولكن الناس يكتفون بالنقد عن جهل، أو بأسوأ من ذلك؛ يكتفون بالمديح! يمدحون الشاعر ويتركون القصيدة، وإن أبغضَ ما أجد في نفسي المديح، بل إن ذهني يفسّره استهزاءً سواءً كان المادح صادقًا أو مجاملًا، كلّها تصبّ في ذهني استهزاء، وقد قلت مرة:

‫إذا مادحٌ ألقى إليّ بمدحةٍ‬

‫أرنّتْ بنفسٍ كالعصا تتقصّفُ‬


‫فيُكربُني إحسانُ ظنٍّ لأنني‬

‫بنفسي وما فيها من النقصِ أعرَفُ‬


‫وأحسبُها أدنى إلى هُزْءِ هازئٍ‬

‫يقول: صباحُ الخيرِ. والليلُ مُغْدِفُ

كنت أردّ المدحة، فيزيدُ المادح فيظنني أتواضع، وهذه أشد، فبعد سنوات توصلت إلى أن أسكتَ عن المديح: قل ما تشاء، وسأنتقل لموضوع آخر بمجرد أن تنتهي.

وهذه الأخيرة ذكرتني بلقطة عجيبة من المومين (وادي الأمان) في مشهد يجمع سنفكين مع مخلوق يشبه ابن عرس، كانا في الغابة في الليل، طلب المخلوق من سنفكين أن يختار له اسمًا، فكان هذا الحوار:

المخلوق بتردد وخجل:

قد أطلب منك الكثير ولكن.. هل يمكنك أن تفكّر باسم لي؟ اسم لي فقط، اسمٌ لا يملكه أحد، هذا هو الاسم الذي أريده.

سنفكين:

من الصعب التوصل للاسم الذي تُريدُه..

المخلوق بإصرار:

ولكنك شخص يعرف الكثير، أليس كذلك؟

سنفكين بنبرة منبّهة:

أنت! إذا ظللت متعلّقًا بشخص كثيرًا ما سيؤدي ذلك لفقدانك حريّتك.

المخلوق مبتهجًا:

أرأيت! أنت حقًا تعرف الكثير من الحقائق والمعلومات!

فالتفت سنفكين عنه، وزفر، وسكت.

هذا المشهد فيه كثير من المشاعر، والدفء، والحكمة، والذي أريده منه أن سنفكين نبه المخلوق مرة واحدة على ترك الغلوّ وترك المديح والتعلق بأحد، فلم يستجب، فتركه وسكت حتى ينتهي، فلذلك صرت أسكت عند مثل هذه المواقف.

أشعر أنني قطعت مشهد سنفكين والمخلوق، طبعًا سكت سنفكين وظلّ المخلوق يثرثر، ولم يختر له سنفكين اسمًا، فغادر المخلوق محبطًا قائلًا لسنفكين: "سايونارا" وهذا وداع في اللغة اليابانية لمن لا يتوقع لقاؤه بعد ذلك، ومشى خطوات، فناداه سنفكين فقال:

أما اسمك، اخترت لك اسم: تيتي وو، بدايته لطيفة، ونهايته فيها قليل من الحزن. 

الخميس، 5 يونيو 2025

تعاسة أن تكون عَزَبًا وبوسيدون – فرانز كافكا (ترجمتان)

 تعاسة أن تكون عَزَبًا وبوسيدون – فرانز كافكا (ترجمتان)

تعاسة أن تكون عَزَبًا

يبدو الأمرُ فظيعًا أن تظلّ عَزَبًا إلى الأبد، وتصبحَ شيخًا إذا أرادَ تمضيةَ المساء مع أحد فعليه أن يتنازل عن بعض وقارِه ويدعوَه إلى المجالسة، وأن تمرض فتقضي أسابيعَ تنظرُ من زاوية سريرِك إلى الغرفة الخالية، وأن تودّعَ الناس عند الباب دائمًا، وألا يضيق عليك صعودُ السلّم مع زوجتك، وألا تؤديكَ أبواب غرفتك إلى غير شقق الآخرين، وأن تحمل عشاءَك بيد واحدة، وأن تحبَّ أطفالًا لا تعرفهم، ولا يسمحُ لك بأن تكتفي بترديد قولِك:" ليس عندي أطفال."، وأن تُشكّل مظهرَكَ وسلوكَك شكلَ رجلٍ أو رجلَين عَزَبَيْن ممن تذكُرُهما في طفولتك.

هذا ما سيكون؛ سواءً اليوم أو في مستقبل الأيام، ستكون أنت الواقفَ ثَمَّهْ، بجسدك، وبرأسٍ حقيقيّ، وجبهة تستطيع أن تصفعَها بيدك [ندمًا].

 

بوسيدون

جلسَ بوسيدون إلى مكتبه يراجع الحسابات الموكلة إليه، إذ وُكِلَتْ إليه مسؤولية البحار والمحيطات جميعِها، فكان عمله لا نهاية له، وكان بإمكانه أن يكون له مساعدون بعدد ما يطلب، ولديه فعلًا عدد كبير منهم، إلا أنه أخذ منصبَه على محمل الجد، وبات يدقق بنفسه على كلّ شيء، ولذلك قلّ نفعُ مساعديه.

لا يمكنُ أن تقولَ إن عمله يورثُه لذةً، فإنما يعمله لأنه وكِلَ إليه فقط، الحقُّ أنه تقدّم أكثر من مرةٍ بطلبِ عملٍ "أكثرَ بهجة" كما كان يصفه، ولكن كلُّ ما عُرض عليه لا يتجاوز عمله الحاليّ رضًى.

ويصعُب أن يجد عملًا آخر متعلقًا بالبحار، فيصعب مثلًا أن يعيَّن على بحر محدّد، ولو وجد وغضضنا الطرف أن العمل الحسابي ثَمَّ لن يكون أصغرَ، بل أتفه؛ فإنّ بوسيدون المُحتَرَم لا يليق به إلا المنصب القيادي الرفيع.

وإذا ما عُرِضَ عليه عملٌ خارج الماء فإن مجرّد التفكير بهذا يجعل نفسَه تتغَثّى، ويختلّ تنفّسُه السامي ويَثقُل، ويهتزّ صدرُه النحاسيّ ويضطرب.

وعلى كلّ حال؛ لم تكن شكواهُ تؤخذُ على محمل الجدّ، عندما يتبرّم الرجل القوي فعليك أن تُظهر مساعدته ولو لم تكن مُجديًا، ولكن لم يقترحْ أحد البتةَ أن يُعفى بوسيدون من منصبه، فقد كان المسؤولَ عن البحارِ منذ الأزلِ، ويجب أن يبقى الأمرُ كذلك إلى الأبد.

وكان يزعجُه على التحديد سماعُه أن الناسَ يتخيّلونه دائمًا راكضًا على الأمواج بحربته ثلاثيّة الشُعَب، وهذا كان أساسَ تذمّره من منصبِه، لأنه في الحقيقة قابع في أعماق المحيط يقلّبُ أوراق الحسابات، ولا ينقطع عن هذه الرتابةِ إلا بزيارة عَرضيّة إلى المشتري، والتي يعود منها غالبًا يستشيطُ غضبًا.

هو بالكاد رأى بحرًا إلا لَمْحًا عابرًا عند صعوده جبال الأولب، كان يُديرُ على لسانه دومًا أنه ينتظر نهايةَ العالم، ففي تلك اللحظة سيكون الجوّ هادئًا، وسينتهي من دفاتر الحسابات، وستتسعُ له لحظةٌ يلقي فيها نظرةً حولَه.

الأحد، 1 يونيو 2025

رسالة من الإمبراطور وحكاية قصيرة - كافكا (ترجمتان)

رسالة من الإمبراطور وحكاية قصيرة - كافكا (ترجمتان)


أهلًا، هذه ترجمة لقصتين قصيرتين لكافكا، وقد ترجمتها عن الترجمة الإنجليزية لألكسندر ستاريت، المجموعة القصصية The unhappiness of being a singe man طبعة دار بوشكين بريس.


رسالة من الإمبراطور

قيلَ إنّ الإمبراطور أرسلَ إليك رسالة، أنت الوحيد، أنت الشيءُ الصغير، الظلّ الضئيلُ المُلقى في أبعد زاوية عن شمس الإمبراطورية. أرسلَ وهو على فراش موته إليك أنتَ دونَ كلّ الناس.

جثا رسولَه بجانبه، وهمس بالرسالة في أذنه، كانت الرسالة هامّة إلى درجة أنه استعادَها من الرسول، فأعادها عليه، فهزّ رأسَه مومئًا إليه بصحّة الرسالة. 

وأمام الجمهور الذي يشهد الموت تهاوت الجدرانُ التي تعيقه عن أداء الرسالة، وكذلك عظماء الإمبراطورية وصفوتُها جميعًا، ومن تجمهر على السلالم الواسعة التي كانت تؤدي إليه، أمامهم جميعُهم أرسل الرسول. وكان الرسولُ شديدًا جَلْدًا، لا يعرف الكلل ولا الملل، فانطلق من فورِه، يدفع هذا ويُزيحُ ذاك، ويشقّ طريقًا خلال الحشد، إذا اعتُرض طريقُه أشار إلى رمز الشمس المنقوش على صدرِه، فيُفسَح له بأسرع مما يُفسَحُ لأي أحد آخر.

ولكنّ الحشدَ كان كبيرًا جدًا، لا نهايةَ لهم، ولا نهاية لمدينتهم، لو خرج فقط إلى الطريق المفتوحة لكان جريُه طيرانًا، ولسمعت عن قريب صوت كفّه تقرع بابَك.

ولكنّ محاولاته كانت عبثًا، فلم يزل يحاول العبور من غُرَفِ القصر التي لن يجتازها منها أبدًا،  ولو فعل؛ لن يتغير شيء، فما زال أمامَه أن يجاهد النزولَ من السلالم، ولو فعل؛ لن يتغيّر شيء، فما زال أمامه أن يعبر أفنية القصر، وبعد أن يعبر الأفنية فعليه أن يعبر القصر الثاني الخارجي، ومرة أخرى السلالم الواسعة والأفنية، ولو بلغ بعد آلاف السنين البوابة الخارجية القاصية -والذي لا يمكن أن يحدث- فما زال أمامه المدينة، بمبانيها المكدّسة، وشوارعها المكتظة.

لا أحد يتسطيع أن يمرّ عبر ذلك كله، وبالأخص من يحمل رسالةً من رجل ميّت.

وأنت تجلس مساءً على النافذة، وتحلمُ بما قالَه.


حكاية قصيرة

"أوّه" يقوله الفأر "العالم لا ينفكّ يتضايَقُ كلّ يوم. كانَ مخيفًا يومَ كان واسعًا، غيرَ أني لم أفتأْ أجري، وسَعِدتُ حينَ رأيتُ جدرانًا عن شمالي ويميني، ولكنّ هذه الجدران ما زالت تتقارَبُ منطبقةً على بعضِها بعضًا بسرعة، حتّى بلغتُ نهاية الغرفة، منطلقًا نحو الفخّ في الزاوية." – "كلّ ما في وُسعِك هو أن تجري مرة أخرى في الطريق المعاكس،" قال ذلك القطُّ ثم التهمَه.

الحَلُّ لكل شيء

 الحلُّ لكلّ شيء حين يجلس وحدَه رجلٌ كثير التفكير والقلق تصل به أفكارُه إلى مُعضِلاتٍ لا حلّ لها، ولا يرتاح باله حتى يبلغ بعَقْدِه الأفكارَ ...