الأربعاء، 30 أبريل 2025

ماذا يذكّرُ بالأحبة؟

 

ماذا يذكّرُ بالأحبة؟

ماذا يذكّر بالأحبّةِ بعدما قطعوا الأواصِرْ؟!

كتبتُ هذا البيت وتوقّفتُ أفكّرُ بالإجابة، ما الذي يذكّرُ المُحبّ ويُعيدُ له الهوى القديم، بعدما انقطعت الحبال وبُنيَت السدود، وتيقّنَ أن الذيي يسكُن قلوبَهم هو صفاءٌ من البُغض.

كان عَمِهًا في سَكْرة الحبّ، لا يرى دلائلَ القطيعة والنُفْرة تبدو واضحةً وضوح يدك في وضح النهار، فعاشَ في عالمٍ من أحلام الوصال، والاجتماع المأنوس، حتى مضت السنوات، وعاش الناس حيوات لا حياة، وهو في سكرتِه، حتى إذا انتبه ندِمَ على ما ضيّعَ من عمره في ملاحقة السراب، وهل ينفعُ الندم في تلافي ما فات؟ أو في توقّي ما هو آت؟ لا والذي رفع السموات!

ولكن الغريب، أن يحيا الحب الميئوس، لذكرى لم تتغيّر، وتعودُ حرارة الحب الأول بعد خمود نارِه، ما الذي أعادَه؟ هذا سؤالي:

ماذا يذكِّرُ بالأحبّةِ بعدما قطعوا الأواصِرْ

يأس كمثل العُشّ عاد إليه بعد الهَجْرِ طائرْ

ما كنتُ أعلمُ أن في قلبي بقيّاتُ المشاعرْ

إذ صرتُ لا أعطي التبسّمَ للمنادم والمُسامِرْ

وغدا الصباحُ كأنّما خُلعَتْ عليهِ حُلى الدياجرْ

طيفٌ ألمّ بمُهجتي لمُكَسَّلِ العينينِ فاتِرْ

وضّاحةُ المَتْنينَ إلا أن تُغطِّيَها الضفائرْ

والثغرُ ألطفُ مسلكًا في القلبِ من نَفَثاتِ ساحِرْ

وكأنّ وجنتَها القصيدةُ رَقّ معناها لشاعِرْ

وإذا مشتْ فكأنّها غيمٌ ترقرقَ بالبشائرْ

يا ويحَ طيفٍ عابرٍ أحيا غَرامًا غيرَ عابِرْ

الثلاثاء، 29 أبريل 2025

المسرح والحِوار

 

المَسْرَح والحِوار

جريمة في قطار الشرق – الحوارات – الضيف الحجري - بوشكين

لاحظتُ من أسلوبي في المقالات الثلاث عن قصتي في الشعر أنني حين أتحدثُ عن ذكرياتي أظلُّ أسردُها سردًا من غير أسلوب واضح، كأنني أسرد حاجيات المنزل: بيض، طماط، صحون. وصلت الفكرة؟ لا لم تصل.

قبل اخْليلاقي في المقالة (لا أريد أن أقول "شُروعي" لأنني أديب) كنت أقرأ في رواية: جريمة في قطار الشرق. وصلت منتصف الرواية، جاءت الرواية على ما أفضله، أنا أحب الحوارات، وأحب في روايات التحقيق أن يكون مكانًا مغلقًا، والمتهمون محدودون، والتحقيق يكون باستجواب الموجودين، وسماع إفاداتهم، وملاحظة التناقضات، ودقائق التغيرات، وهكذا هذه الرواية، فثلثها الأوسط عبارة عن فصول معنونة بإفادة فلان، وإفادة فلانة، ولعلي لهذا السبب لم يسُغْ لي  آرثر كونان دويل في مغامرات شارلوك هولمز، لم أقرأ بعد (دراسة في اللون القرمزي) ولكن بشكل عام قصصه القصيرة لم تجذبني لأنها تفتقد للحوارات والاستجوابات، وأشعر دائمًا أنها قصص كوميدية.

تفضيل الحوارات جعلني أحب قراءة المسرحيات فهي قائمة على الحوارات، يكون الوصف قبل ذلك وصفَ المسرح والأجواء، والشخصيات الموجودة، ثم يكون الأمر كله حوارات، لأن الحوار أكثر طَبَعيّةً من الوصف، ويشبه  ما تقضي به نصف عمرك أعني الحوار، ومن ذكاء الكاتب أن يستطيع إيصال الحدث بالحوار فقط من غير فجاجةً.

أول مسرحية عرّفتني على هذا الأدب كانت (الضيف الحجري) لألكسندر بوشكين، في بداية انبهاري به وبالأدب الروسي جعلت أبحث في كل مكان عن هذا الأدب، فظهرت لي هذه المسرحية مسجلة في البرنامج الثقافي على الإذاعة المصرية.

قدم البرنامج الثقافي منذ الستينيات مئات المسرحيات العالمية مسجلة بلغة جميلة مُعربة، وأداء أسطوري يجعلك ترضى أنك لم تدرك العمل بلغته الأصلية، وأنك لن تراه من باب أولى ممثلًا في مسارحنا.

أحدثكم عن قصة مسرحية الضيف الحجري؟ تمام، بطل المسرحية هو الشخصية الأسطورة دون جوان، زير النساء، قتل العقيد دي سيلفا في مبارزة، فنُفي من مدريد، ثم عاد إليها متخفيًا، ودخل ديرًا فيه قبر العقيد دي سيلفا، فرأى هناك الدونا آنّا أرملة العقيد، فأراد إغوائها، فمما أبهر به بوشكين هذا النص، من حوار دون جوان وآنا، قال دون جوان:

"أنا؟ أنا أصلّي مع دونّا آنّا؟ هذا قدرٌ من السعادة لا أستحقّه، شفتايَ هاتان الشرّيرتان لن تجرُؤا أبدًا على ترديد ابتهالاتكِ القُدْسيّة، ولكنّني .. ولكنّني أطلُّ عليكِ من بعيد في خشوع حينما تنحنينَ في صَمْت، تنشرينَ ضفائرَكِ السوداءِ فوق الرخامِ الشاحبِ، حينئذٍ.. حينئذٍ يبدو لي أن مَلاكًا قد هبطَ إلى هذا القبرِ سِرًا، وعندئذٍ فإن ما أجده بداخلِ قلبيَ المعذّبِ ليست هي الصلوات، لا، ولكنّني أقف في عجَبٍ صامت أفكّر، وأقول: أوه.. يا لَهُ من رَجُلٍ سعيد، ذلك الذي يدفؤ رخام ضريحِه البارد بأنفاسٍ من شفتَيها السماويّتين، ويبتلّ بدموع حبها العظيم."

    وهذا المشهد رسمه الرسام الروسي إيليا ريبن عام ألف وثمانمئة وخمسة وثمانين، أي بعد خمسة وخمسين عامًا من كتابة المسرحية، وبوشكين غني عن التعريف، هو وغوغول كانت منهما انطلاقةُ الأدب الروسي الذي يُعظّمُه القراء، قبل ذلك لم يكن له وزن كبير، حتى قال برنارد شو:

"ما الأدب الإنجليزي أمام الأدب الروسي إلا كالأكواخ أمام القصور."

The Stone Guest. Don Juan and Doña Ana 1885
Ilya Repin


الاثنين، 28 أبريل 2025

قصة الشعر (3)

 

قصة الشعر (3)

رابطة الادباء – الأمسيات – طباعة ديوان - المسابقات

أوّل مرة ذهبتُ إلى رابطة الأدباء كانت قبل سنوات كثيرة، في فعالية أسبوعية كانت تقام عندهم باسم منتدى المبدعين الجدد، يأتي "المبدع الجديد" ويلقي قصيدة أمام الحضور من المبدعين الجدد، أو يقرأ قصة قصيرة، أحيانًا يكون في الحاضرين مبدعين قدماء، ثم يستقبل سهام النقد التي ترمى رميًا ممن هم في نفس مستواه، وغالبًا النقد يكون لا فائدة منه لهذا السبب.

 

النقد يجب أن يكون ممن بلغ في العلم غاية بعيدة، ويرتضيه المبدع الجديد، لا ممن هم في مستواه، هذا بشكل عام، والشعر بشكل خاص يحتاج تدقيقًا في علم العالم نفسه، فمن اتخذ مدارس النقد الحديث مجالًا له فلن يستطيع أن ينقد نقدًا صحيحًا، ولكنْ من اتخذ من أسس المتقدّمين دليلًا على نقده، ويكون متمرسًا سنين كثيرة في كلام المتقدمين كالأصمعي وأبي عمرو والمبرد، مكثرًا من القراءة للشعراء المتقدمين من الجاهليين والأمويين والعباسيين الأوائل، لم خصصت هذه العصور؟ لأن الشعر فيها كان محكمَ النسج، ومناط الخطأ عند الأولين والآخرين في نسج الكلام لا في المعاني.

 

كنت في تلك السنوات أحب أن أظهر شاعرًا، فألقيت شعري عند كل الناس، ومنهم رابطة الأدباء، كنت أتمنى أن أدعى لأمسية ألقي فيها أشعاري، كنت مفتونًا بالمشهد الذي أرى فيه الشعراء على منصّة وأمامهم اللاقط، يلقي شعره ويصفق الناس، غيرَ أني لم أدع لأمسية ولا لأصبوحة (الفرق بينهما أن الأولى في المساء، والثانية في الصباح) إلا أصبوحة واحدة في مدرسة ثانوية مع ثلاثة شعراء آخرين كان منهم سالم الرميضي وعبد السميع الأحمد.

 

بعد ذلك في الجامعة أقام نادي فصيح وهو ناد لطلاب قسم اللغة العربية في كلية الآداب، كانوا يقيمون فعالية أسموها (المايك المفتوح) تسجل فيه وتلقي ما شئت من إبداعك، فشاركت فيها مرتين على ما أذكر، وألقيت في المرة الأولى قصيدة أذكر موضوعها عن العنصرية، منها:

كلانا إلى نوح ونوح لآدم

وآدمُ من طينٍ ففيمَ التفاضُلُ

وشاركت مرة أخرى بقصيدة أسميتُها (المُعَلِّلة) أتحدث فيها عن أن الناس انفضّوا عنّي، وتركوا سماع شعري لأني تركت الغزل، مطلعها:

خاب ظنّي بحيلتي واحتيالي

وتيقّنتُ أنني للزوالِ

كان هذا ادعاءً، هم لم ينفضوا، هم لم يلتفتوا إلى شعري من الأساس.

كانت فعاليات كلية الآداب جميلة، حضرت أغلبَ المحاضرات التي أقامتها اللجنة الثقافية، وأغلب المسابقات النحوية ومسابقات المساجلات، ولكني لم أشترك بها، وليتني فعلت، كنت أخجل من المشاركة، لا أدري ما المخجل حقيقةً، ولكني شاركتُ في الفصل قبل الأخير بمسابقة للإلقاء أخذت فيها المركز الثاني.

 

وعلى ذكر المسابقات فقد شاركت بمسابقة اسمها جائزة فلاح الحجرف، مسابقة وطنية للإبداع، ترسل قصيدة أو قصةً أو لوحة، وتدخل في نقد ترشحك للفوز بإحدى ثلاثة مراكز، شاركت بالأولى بقصيدة تقع في ثلاثين بيتًا، وهم طلبوا عشرة أبيات، وفزت بالمركز الثالث المكرر مع الشاعر سالم الرميضي، كانت القصيدة رائية، أذكر منها بيتًا بديعًا في وصف القهوة:

وأدفعُ مرّ الوجْدِ عنّي بمُرّةٍ

وحَسبُكَ أن المُرّ يدفعُهُ مُرُّ

كان ذلك عام ثمانية عشر، وهذا البيت أخذت معناه من الشاعر عبد الله الفيلكاوي، لا أذكر أخذته من بيت كتبه أو خاطرة، أو أنني متوهم أنني أخذته منه، لا أذكر على التحديد.


بريق الإلقاء أمام الجمهور، وحضور الأمسيات التي ألقي فيها أشعاري كل ذلك خفت منذ زمن، خفت منذ أعوام كثيرة، صرت ضنينًا بشعري، أنشره على صفحاتي ولا أزيد على ذلك، بل حاولت أكثر من مرة أن أجمعه في ديوان مطبوع ثم أفشل في ذلك بعد المرور عليه، لأني كتبته كله بصدق، فحين أتذكر أنه ربما يُبتذل، أو يُنقَد، أو لا يُلتفت إليه أضنّ به، وأرفعه عن ذلك.


الأحد، 27 أبريل 2025

قصة الشعر (2)

قصة الشعر (2)

نكمل من حيث وقفنا في قصتي مع الشِّعْر، حيث أرسلت بيتي الأول إلى من لم يردّ عليه، ولعله لم يقرأه، لا بأس، تركت الشعر وقتها سنةً أو تزيد، ثم لا أذكر بالضبط تفاصيل ما حدث، هل اهتممت بالشعر، أم أنني وصلت لهذا الحدث فجأة لا أذكر، وذلك؛ أنني كنت في اختبار من اختبارات المرحلة الثانوية، فجاء سؤال بهذه الصيغة: اذكر ضدّ (الحسن) في جملة من إنشائك. فأردت أن أجعلها بيتًا لا جملة فقط، فكتبت بيتًا على الوافر كذلك، وكان على الوافر، فقلت:

يعايرُني الزمانُ بقُبْحِ وجهي

ولولا القبحُ لم يُلَد الجمالُ

هذا البيت هو الذي كتبته، وكتبته على يدي كي لا أنساه، وخرجت سعيدًا لأخبر من حولي عنه.

 

أخبرتهم واحدًا واحدًا، وبعد يومين، قلت لأحد الإخوة كان مهتمًا بالشعر، وكنت أراه أعرف مني به بطبيعة الحال: لقد صرت شاعرًا، وأخبرته بالبيت فنظر إلي نظرة المستسخف وقال: يُعايرني؟ قل يعيّرني! ولم يُلَد؟ خطأ! قل ما وُلدَ. كان نقده مصيبًا وتصويبُه صحيحًا، فصار البيت:

يعيّرني الزمان بقبح وجهي

ولولا القبحُ ما وُلِدَ الجمالُ

 

ومن بعدها انطلقت في عالم الشعر، قراءة وكتابة، وكانت المحاولات سخيفة لثمانية أعوام، ثم بدأ يخرج من قريحتي شعر يُسمَع ولا أقول جيد، وهذا مستمرّ إلى اليوم، وهذه نظرتي لشعري أنه يُسمَع مرةً واحدة، ثم يُرمى.

 

في المرحلة الثانوية كنت متلعقًا بنونية القحطاني، فلم أكن أكتب إلا على بحرها وقافيتها وموضوعها في وصف الجنة والنار، تخيلوا ثلاثة سنوات لا أكتب غير هذا! وكله ركيك، ثم اتجهتُ للغزل، وأذكر أول شطرًا مما كتبته أول مرة في الغزل:

في ساعة وتبيع الخبزَ بالعسلِ

من هذه؟ وماذا تفعل؟ لا أعلم!

وأذكر من الأبيات القديمة جدًا التي تُستساغ قولي:

وصافحتُ الحبيبَ فلستُ أدري

أكفًا قد لمستُ أم السحابا

الله المستعان، كنتُ وحيدًا في حب الشعر، هكذا أراني عندما أنظر بعد خمس عشرة سنة، كنت أظن الناس يحبون الشعر كما أحبه، فأسمع الجميع جديد ما أكتب، ويتبيّن الآن لي أني كنت وحيدًا في تعلقي بالشعر، وإحاطة نفسي بالقوافي والمعان كتابةً وقراءةً، وقد أصبحت الآن لا أُنزل شعري منزلةً ألقيه على أذن أحد، أترفّع جدًا عن الناس حين يتعلق الأمر بشعري، صار أنفسُ عندي من كلّ نفيس.

 

صرتُ اليوم من شروط إلقائي لشعري عند أحد ألا يتكلم أحد من الحاضرين ولا يتحرك ولا يسرح، فإن فعل أحد -ولو لم يكن مستمعًا- قطعت إنشادي وامتنعت.

 

الحمدلله الذي هداني للشعر، فأصبحت بعد هذه الأبيات الركيكة أقول:

وما كان بيني يومَ جرعاءِ مُشرِفٍ

وبين سكون النفسِ إلا سلامُها

غفرَ الله لها، ألا ردّت التحية؟ فما زلت أخبط في حياتي منذ ذلك اليوم بجرعاء مُشرف، فلا الليل ليل، ولا النهار نهار، على أن للنهار فسحة تطرح فيه العين طرفها.


الجمعة، 25 أبريل 2025

قصة الشِعر (1)

 

قصة الشِعر (1)

تحدّثت في الأيام الماضية عن الروايات، اليوم عن قصتي مع الشعر -إن شاء الله- إن لم يجُرْ بي الاستطرادُ إلى غيره. الشعر صحراء كبيرة، بحرٌ محيطٌ لا ساحلَ له، وكلّ من ادّعى إحاطته بدقائق الشعر فهو كاذب، لذلك لن أدّعي أنني عالمٌ به، وإنما أسوق لكم ما عانيته فيه.

 

حينَ أرمي بذاكرتي إلى أقصى ما أتذكّر عن الشعر؛ هو أني عندما كنت صغيرًا أسمع ألقاب الصحابة المضافة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم: مؤذن الرسول، حواريّ الرسول، صاحب سر الرسول، فسألت والدي بعد تفكير: من شاعر الرسول؟ والعجيب لي أنه كان لهذا السؤال الذي لم أسمع بأجزائه من قبل إجابةٌ! حسان بن ثابت -رضي الله عنه-

 

هذا أقدم ما أذكره من الوعي بوجود شيء اسمه شعر، بعد ذلك صرت أرى الشعرَ نوعًا من العلوّ ذي البريق الجميل، ومع وجود الاناشيد "الإسلامية" تبلور عندي إدراك الوزن، لأن الأوزان هي إيقاعات تُلتَزَم في الكلام، والأناشيد إيقاعات توضع على الأشعار، وكنت أحب الأناشيد ذات الإيقاع السريع، فهذا على هذا ومع مرور الوقت أدركت أذني الوزن وأنا لا أعلم، وكذلك يحدث مع غالب الشعراء، قلّ شاعرٌ يتعلم الوزن من غير فكرة سابقة.

 

ولذلك أنا لا احسن تعليم الشعر، بالأخص مع من يظن أن تعلم الشعر هو عبء الشيخ لا الطالب، فينتظر منك أن تُلقمَه العلم بملعقة، لا يعلم أن الشيخ ليس بيده إلا التوجيه، وعلى الطالب القراءة والعلم والتجربة وكل شيء، هذا غير من يأتي وقد لمعت في ذهنه فجأة أن يكون شاعرًا فيقول: كيف أكتب الشعر؟ فأسأله عن علوم اللغة العربية فأجده لا يعرفها، ويريد الشعر؟ هل تعلمون أن الشعر علم لا أهازيج؟ علم تبلغ أوله إذا أتقنت علومَ اللغة جميعِها، تبدأ عندها الخطوة الأولى في الشعر، وغالبًا ستخطو خطوتين أو ثلاث ثم ينتهي عمرك.

 

سأختم هذه المقالة بقصة أول محاولة، وأول بيت موزون كتبته في حياتي: أول محاولة كانت يومَ زرت المدينة أول مرة، ودخلناها ليلًا، فظهر مسجد النبي صلى الله عليه وسلم منيرًا بين الجبال، فجعلت أقلّب بيتًا أحاول كتابته، فكتبته غير موزون ولا معنى له وإن كنت حاولت التعبير عن شعوري بالهيبة لمرأى المسجد، والسكينة لدخول المدينة. وبعد أشهر أرسل إليّ أحد الإخوة رسالة فيها معاني الأخوّة في الله، فجعلت أقلّب بيتًا أردّ به عليه وكنت عرفت أن للشعر أوزانًا تسمى بحورًأ، وأن منها بحرًا اسمه الوافر، وعرفت إيقاعه، فكتبت على الإيقاع فأخطأت الوافر ومن توفيق الله أنني أصبت الكامل، قلت:

 أنتَ الذي كالنجمِ حين تبرّقا .. واجتازَ ما بين البريّة وارتقى

بيت سخيف، ولكنه بداية على الأقل، وما زلت أنتظر الإجابة من ذلك الأخ، لم يجبني إلى الآن.

الخميس، 24 أبريل 2025

فائدة الروايات

فائدة الروايات

 

لا تنتظر من هذا العنوان كلامًا علميًا، لا أرى أن لهذا جدوى، وكل من يتكلم عن فوائد قراءة الروايات تشعر أنه يصف لك لون الهواء، وطعم الماء، ولكن سأتكلم إن شاء الله عن فائدة استفدتها شخصيًا من آخر رواية يفكر احدهم أن يستفيد منها.

 

في عام من أعوام الجامعة، الأخير على التحديد قرأت رواية دوستويفسكي (في قبوي)، أو غير ذلك، فلم يُجمع المترجمون على عنوان، الدروبي جعلها (في قبوي) وزغلول فهمي جعلها (مذكرات من العالم السفلي) وعبد المعين الملوحي (في سردابي) وهكذا، لأن العنوان الروسي: مذكرات من الـ(بادبوليا)، وهذه الكلمة بالروسية تشمل معاني كثيرة للمكان تحت الدور الأرضي، وقد سألت خالي -وكان درس في روسيا- عن معناها فأخبرني بأحد معانيها المقاربة، قال: كانوا يسمون سراديب مراهنات الملاكمة بـ بادبوليا. بحثت هكذا عن الكلمة في صور قوقل فظهر لي المكان الضيق بين أسفل البيت والأرض، الفراغ الذي يرتفع عنه البيت قليلًا.

 

قرأت هذه الرواية، فوجدت بطل الرواية فيه كثيرًا من صفاتي، ولكن بشكل متطرف مبالغ فيه، بطل الرواية لا أدري كيف أصنفه في الفلسفات ولكنّه رجل ذكي، غير قادر على مجارات مجاملات الناس بين بعضهم، ولا مجاملاتهم لأنفسهم، فهو يرى نفسه أرفع منهم، ويحسدهم على تصورهم الراضي عن أنفسهم، ويحتقر نفسه لأنه ليس مثلهم، ويحتقرهم لأنهم ليسوا مثله، فيشبههم -بأنهم عمليين- بالثور الذي يركض في اتجاه واحد ثم يصطدم بالجدار، ويسخر من تسليمهم للأخلاق تسليمَهم للمسائل الرياضية.

 

أنا لست كذلك، كنت أشبهه من ناحية نظرته لنفسه، وتعامله مع المجتمع، ولم أنتبه لسوء ما كنت فيه حتى قرأت الرواية، وعلمت نهاية مثلِ هذه التصورات التي بدأت نواتها بالانفلاق عندي، فالحمد لله تداركت الأمر الذي بصّرَتْنيه الرواية من نفسي.

 

هذه الفائدة لا أنكرها، وبعد قراءة (في قبوي) حالفتُ دوستويفسكي، وانطلقت في رحلتي في قراءة أعماله.

 

لن تصدقوني لو قلت لكم أن في خاطري كلامًا أكثر، ولكن الوظيفة قطعت المقالة، السلام عليكم.


الأربعاء، 23 أبريل 2025

كتابان روايتان (2)

 

كتابان روايتان (2)

هذا الصباح كنت أستمع إلى قراءة المنشاوي -رحمه الله- لسورة الكهف، أسبغت القراءةُ على قلبي لَبوسَ السكينة، وقلت في نفسي، لعلي أتكلم اليوم عن قراءة المنشاوي، لكنّي تراجعت، فقد ألزمت نفسي أمس أن أكتب الجزء الثاني من مقالة (كتابان روايتان) وغدًا سأتكلم عن قراءة المنشاوي البهية -إن شاء الله-.

 

مقدمة أحسبها ليست موفقة، كأني نزلت من الأحب إلى الحبيب، ومن الأهم إلى المهم، ولكنّه الإلزام، لا تلزموا أنفسكم بشيء، لا تكونوا قنادس كونوا كوالا، ما لفرق بينهما؟ أنا أخبركم؛ القندس حيوان يخطط لحياته لشهور، فهو يبني السدود ومواضع المبيت، وله تأثير كبير في الكوكب، أو في المكان الذي هو فيه، أما الكوالا فتعيش كيفما اتفق، تتسلق الأشجار وتأكل ما تيسّر من هنا وهنا، ثم تنام عشرين ساعة، وهكذا؛ فالقندس مثال على الالتزام، والكوالا مثال على البوهيمية، تحيا الكوالا!

 

الرواية الثانية أعلم، لم أنس الموضوع الأساس للمقالة، فلا تغضب عزيزي القارئ. أقرأ رواية جريمة في قطار الشرق، هذه الرواية أجّلتُ قراءتها سنوات ذات عدد، ثم عزمت بحول الله على قراءتها، وقد اتّلثتُ فيها (وصلت الثُلُث) وأحسب أن هذه الرواية هي أكثر رواية مهيّئة لبوارو كما يريدها، قطار متعطل في الثلج، فهو مكان منعزل، ومشتبه بهم محدودون، ومالك شركة القطار أعطاه الخَيْط والمِخْيَط يتصرف في حل الجريمة كما يشاء.

 

قرأت لأجاثا كريستي روايات قبلها، ولكن رأيتها هنا تطبخ الرواية على نار هادئة من غير تطويل مُملّ، ولا اختصار مخل، رواية بوليسية مثالية، وأحبُّ من الروايات البوليسية ما تكون هكذا في مكان مغلق، والتحقيق يبدأ باستجواب الموجودين، وتبدأ مع المحقق تراقب كلماتهم، أو تناقضاتهم، ثم تجلس وتفكر كما يقول هيركول بوارو، حدث هذا مع الرواية التي قرأتها لأجاثا كريستي قبل هذه وهي، جريمة عيد الميلاد، كانت في بيت مغلق، في حفل اجتماع في الكريسمس، وتحدث جريمة فيُحبس المدعوون وهم من عائلة واحدة، وتبدأ الاستجوابات، وتظهر العلاقات المعقدة بينهم.

 

غير ذلك فإن أجواء العصر ذاك جميلة، وإن لم تكن فكتورية فأجاثا تكتب في زمانها بداية القرن العشرين وأواسطه، ولكن حافظت على الأجواء الفيكتورية المحبوبة عند الناس، وهنا اختلاف عن ديكنز "الفيكتوري" فإنه يظهر أبشع ما في العصر الفيكتوري من فقر وجوع وزوايا منتِنة.

ليس عندي غير هذا، إن شاء الله بعد أن أنتهي من جريمة في قطار الشرق وأوليفر تويست أكتب عن الروايتين انطباعًا ومقالة تكون امتدادات لهذه المقالة.


الثلاثاء، 22 أبريل 2025

كتابان روايتان (1)


الذهن مشتت تشتتًا يمنعُ من تدفق الأفكار لكتابة مقالة، ولكنّي مُسترخٍ لعلمي أن قرّاء المقالات وإن كانوا أقبلوا على أول مقالتين فسرعان ما سيتناقصون حتى أبقى وحيدًا أكلم نفسي، وهذه أروَحُ حالةٍ للكاتب المليءِ النفسِ الذي لا يدري كيف يحلّ قلقَه المتشابك.

أقرأ هذه الأيام روايتين بالتوازي، لا أحب هذه الطريقة ولكنّي محتاج إلى الانفصال عن عالمي إلى عوالم أخرى، وهذا يتحقق بالروايات بإذن الله.

الرواية الأولى هي رواية أوليفر تويست للكاتب الإنجليزي تشارلز ديكينز، أردتُ القراءةَ لهذا الكاتب منذ علمت أنه في الأدب الإنجليزي كتولستوي في الأدب الروسي، فأقبلت أولًا على قصة مدينتين ولكنّي لم أستطع البداية بها، ثم بدأت بأوليفر تويست وانغمست فيها سريعًا، شدّني من أحرفه الأولى، ربّما لأنه بناها على الظرافة السوداء، والنكت من أكثر الأساليب إثارة وجذبًا للقارئ، لأنها لا تتم إلى بنهايتها، فكيف إذا كان الكاتب ذا أسلوب عالٍ، ولا يتركك تنتهي من نكتة إلا أردفها بمثلها؟

سأروي لكم أجواءها إلى الموضع الذي وصلت إليه، ما زلت في البداية، أوليفر تويست وُلد عن مخاض امرأة اضطُرّت إلى مستشفى الولادة، ثم ماتت بعد ولادته، فأخذت القابلة الولد الذي لا يُعرف اسمه، ولا من أبوه، ولا من هي هذه المرأة التي دخلت عليهم فجأة؛ أخذته وقدّمته إلى الأبرشية لترعاه، فأخذه الشمامسة إلى ملجأ أيتام مع تكاليف معيشته، وكانت صاحبة الملجأ جشعة ظالمة، لا تكاد تعطي اليتامى كفاف معيشتهم وتأخذ بقية المال لنفسها، وبعد بلوغه تسعة أعوام عاد إلى الأبرشية، ولا أريد التطويل عليكم؛ ولكنّ وصف ديكنز للبؤس والحرمان والجوع بروح ضاحكة شيء يصيب مواضع الحزن في أعماقك فعلًا.

انقطع حبلُ أفكاري بسبب الوظيفة، انقطع قطعًا وحشيًا لا هوادة فيه، وبتّ أتفكر في حال دوستويفسكي كيف كان يكتب مع وجود ضغط اقتضاء الدائنين أموالَهم، ومطالبِ المجلات توقيت النشر، ومع ذلك أتحفَ البشر بأمثال الجريمة والعقاب والإخوة كارامازوف التي لم أقرأها بعد، والمقامر التي كتبها في ستة وعشرين يومًا بمساعدة مختزلته وزوجته بعد ذلك آنا غريغوريفنا.

الكتابة تحتاج صفاء ذهن الكاتب من المشتتات الصغيرة فما بالك بمشتت يشتت شملَ نفسك وفكرك وصحتك وأنت تعلم أنك لا تنفع ولا تضرّ، وعملك كله ضائع ضياع كرة تعدت الخط بعد صافرة الحكم، تشبيه سخيف متحذلق.

أمنيتي أن أكون موظفًا كاتبًا لا غير، أعطى المال لكتابة أفكاري وتخرّصاتي فقط، والحقّ لو تعلمون أن هذه التخرّصات أثقل في ميزان الأدب من كثير من الكلام الجَدّ، والأدب "الرفيع".

كنت أريد الحديث عن الرواية الثانية التي أقرؤها، لعلّي سأرجؤها إلى جزء ثانٍ لهذه المقالة، يفعل الأدباء ذلك أحيانًا.

الاثنين، 21 أبريل 2025

مذكرات حبيس

قال لي عندما رآني أعود من نزهتي بوجه مربدّ:

أراكَ -إن لم تكن ترى نفسك- قد خرجت بوجه ورجعت بوجه أكثر اسودادًا، وهذا يدلّ على أن طرح البصر في مناحي الأرض لم ينفعك.

فقلت له بنبرة محايدة:

وماذا أصنع؟ قد فعلت ما أمرتني به.

فقال:

لن ينفعك الخروج في الطبيعة إذا كنت في سِجن من نفسِك وهمومِك ووساوسك، والطبيعة لن تمدّ مُبردَها إلى سجنك حتى تُخرجك إن لم تُخرج نفسَك.

قلت:

أليس هذا عجيبًا؟ البحر الزاخر، والسماء الزرقاء، والهواء المنعش، والبشر والطير والشجر، كلّ ما هو متكفل لإخراج الإنسان من كآبته، وقفوا دون باب السجن ينادون من مكان بعيد، لا أكاد أسمعهم.

قال:

لذلك أخبرتك أن سجن نفسك أنت وحدك تملك مفتاحه، أو تملك كسرَه.

***

عدت من غدٍ مُريدًا "كَسْرَ سجني" فخرجتُ إلى الحديقة العامة صباحًا قبل أن يتغيّر الهواء بأنفاس الناس، كانت الألوان أبهتَ مما هيَ عليه، فعلمتُ أن هذا مشهد من خلال نافذة السِجن، أخذت نفسًا عميقًا أو نَفَسين، فشعرتُ بتحرر لِلَحْظة، كما تهبّ نسمة على المسجون ثم يعود الجوّ خانقًا رطبًا، كأن هذه القضبان ارتفعت عنّي ثم عادت مصطكّةً تصدم الأرض وتدوّي في جنبات حوائط السجن.

كانت محاولةً جيدة لإراحة نفسي، وإن لم تستمرّ أكثر من ذلك، فعدتُ إلى صاحبي وكان لمّاحًا لتغيّرات التفس من خلال ما تنطق به العيون، فما إن رآني حتى ابتسم وقال:

يُعجبني المُحاوِل وإن لم يفلح، ألم تسمع بشرف المحاولة؟ فهل سمعت بشرف النجاح؟ دائمًا الشرف قرينُ المحاولة يا صديق.

***

ها قد مضى يومان لم أتحدث إلى أحد، لا أعني الأحاديثَ العابرة والتحيات؛ بل أعني المحادثة والأخذ والردّ والنقاش، المحادثة المتكاملة الأركان، هي حاجة للإنسان أشبه بحاجته للماء والهواء.

أتعلمون ماذا يحدث لمن يُمضي حياته صامتًا لا يسمع إلا أفكاره؟ سيخدر لسانه فما يكاد يقيم كلامًا متصلًا، وتستبدّ به وساوسُ لا تنتهي، يقع في دوّامة لا يعلم كيف ابتدأ ولا إلى أين تنتهي، فقد تعطل لديه محفز التفكير من الناس، يصبح زاهدًا في الحياة، تُظلم في عينه الدنيا، وتفقد بهجتها، وتنسحب الألوان من أماكنها وتحلّ شبيهاتها الرمادية.

أما صديقي الذي ينصح بكسر سجن نفسي، فربما هو لا يعلم أن اليد الواحدة لا تصفق، هو يتركني في قارب في عُرض المحيط بلا مجداف والهواء ساكن، ثم يشير نحوي من منارته العاجية ويقول بابتسامته: تعال يا صديقي. سأفعل ولكن ارم إلي بمجداف!

***

مراقبة السقف هواية مملة، ولكن لي مغزى من ذلك، أريد "كَسْرَ سجني" أو شيء من هذا القبيل، يبدو لي الأمر مُحالًا، أو قل أن حلّ صديقي ليس في موضعه، ليس حلًا أن تصوّر لي تشبيهًا يعبر عن حياتي، ثم تحطم التشبيه بتشبيه مثله، وتبتسم ابتسامة الحكيم، مريحًا ظهرك على مقعد راضيًا بما توصلت إليه من حلّ لمعاناتي، يبدو لي بعد تفكير أن مراقبة السقف هواية مثيرة مقارنةً بالدائرة المفرغة التي ألقاها إليّ صديقي.

***

تكررت هذه العَوْدات إلى صديقي، كان كلامُه حِكَمًا إلا أني لم أستفد منه، والذي لَحَظتُه بعد مُدّة أنه بدأ يشبهني، كنتُ أقشرُ ألوانَهُ شيئًا فشيئًا بيأسي وظَلامي الذي أسبغُهُ على ما حولي.


اليوم انتبهت إلى تلعثمِه، وبطء بادرته في الحِكَم البرّاقة، يتكلم الكلمة ثم يصمت في منتصف الثانية، قتلتُ فيه روح المتفائل، كان ظلامي واكتآبي أعتى من تفاؤله وابتهاجه.


قلت له في آخر لقاء:

يبدو أنني لن أتغير.

فردّ بنصف صوت:

لا تقل ذلك كل شيء بتغير.

فانتهزت هذه الفرصة التي واتتني بأنه يقول كلامًا لم يمحّصه في نفسه فقلت:

بلى صدقت، وإني لأراك قد تغيرت وأصبحت أشبه بي من نفسي! هذه الظلمة التي كنت تسميها سجنًا، أتستطيع الآن الخروج منها؟ قل لي! كنت مُولعًا بالحِكَم الرنّانة التي أشعرتني بالتوهان، خذها وابرد بها قضيان سجنك!

وتركته ومضيت، لم ألتفت إليه، ولا أقابله بعد ذلك، خُبّرتُ أنه انعزل، وتحوّل إلى جذع شجرة مُلقى، أصابه ذلك لأنه لم يعتد الظِلمةَ اعتيادِي إياها، ما لي وله


الأحد، 20 أبريل 2025

أحاديث الظهيرة

 أبغض من مقدمات الروايات ما يذكر في البداية تاريخًا لا يهم أحدًا، ولا تستطيع تذكره أصلًا، إن كان ولا بدّ فاذكر الحقبة بشكل عام، هذا تفضيلي ولا أقول رأيي، الأمر لا يرقى إلى التَّرَئّي، طرأت لي هذه المقدمة لأني كدت أبدأ المقالة بتاريخ اليوم الذي هو 20 أبريل 2025، لقد ذكرته مع ذلك!

بودي لو أن لمجتمع القراءة في مواقع التواصل ترابطًا أكثر مما أجد، فقد تابعت مجموعة من الغرب الذين يصنعون محتوى متعلق بالكتب فوجدته ممتعًا لسبب؛ أن غالب من يصنع المحتوى لا يتعدى الروايات، والروايات لا تشكل تحيّزًا للمرء، أما عندنا العرب فما أكاد أتابع صانع محتوى قارئًا إلا أجده مولعًا بالفلسفة، ولوع المُسلّم، فتجده فعلًا يعتقد بفلسفة هذا أو ذاك، وهذا التحيّز يشكّل المرء شكلًا، ويجعله مائلًا متعصّبًا لا محالة للفلسفة التي يعتقدها، فيصبح إنسانًا بغيضًا لا يُحتمل ثِقْلُه.

القراء عندنا يساوون بشكل أو بآخر الكتّاب عندهم، قد أصابت الغرب لوثة الفلسفة فصاروا لا يكتبون لأجل المتعة، أو التعبير عن الإنسان كما كان يفعل الروس في عصرهم الذهبي، وإنما يكتبون خدمةً لفلسفة ما، والكاتب الملتزم دائمًا يخسر في رهان الخلود الذي ينشده الكتاب، لأن عامة البشر لا تهمهم أفكار اعتباطية فكّر بها فيلسوف في جحره، نعم الفلسفات ليست علمًا، هي أفكار صاغها أصحابها وألزموها البشرية، تبًا للكاتب الملتزم.

الموضوع هذا يحدد توجهي في القراءة، فلا أكاد أشعر بالكاتب يلوي لسانه ليًا ليعبّر عن فكرة فلسفية حتى أغلق الكتاب غير آبه بكاتبه، وأعني هنا الأفكار المتعلقة بالفلسفات الموجودة مثل الوجودية والعدمية وأشباهها مما له أسماء تهول بلا طائل، أما الفلسفة في ذاتها فهي متحصلة لا محالة في كتابات المرء.

كنت أتابع صانعة محتوى كَنَديّة وضعت تحديًا لها ولصديقتها ولمتابعيهما أن يقرأوا تراث تولستوي وديكنز، ويقيمون حلقات نقاشية بذلك، كانت هي تميل لتولستوي وصديقتها تميل لديكنز، في أول الأمر استطلتُ الطريق، ولكنهم انتهوا بعد أربع سنوات فعلًا، وكانت مادة كبيرة وحصيلة وفيرة من النقاشات والتحليلات الممتعة بينهم، فهل هذا ممكن عندنا في مواقع التواصل؟ ممكن ولكن ليس على نطاق كبير كما رأيت، ينقصنا شيء من التواضع، فالتي كنت أتابعها لم تكن تعتبر نفسها مثقفة تنظر من برج عال، كانت تقرأ وتستمتع وتشارك المتعةَ متابعيها فقط.

وهنا أمر آخر يوحشُني من النوادي القرائية، فقد تابعت حوارات بعض النوادي عندنا، كأنهم يرون أن الحديث عن القصة والشخصيات والحوارات الدرامية في الرواية نوعٌ من السطحية، فتراهم لا يتناقشون إلا في "الأفكار العميقة" للرواية، فتفقد الرواية بريقها، لا يعجز الكاتب أن يصوغ أفكاره في كتاب بشكل مجرّد من القوالب الأدبية، فبما أنه صاغها في قالب أدبي فليس من العقل تجريدها والنظر مرة أخرى، والحديث عن الأفكار المجردة فقط، هذا ممل جدًا ولا فائدة منه، لأن الفائدة العلمية التي يخشى أن يرموا بفقدها غير متحصلة بهذه الطريقة كما ينبغي، العلم لم يُهجَر في الكتب العلمية، فاقرؤوها إن كنتم تخشون تهمة السطحية.

شكرًا لكم

السبت، 19 أبريل 2025

الترحيب بكم، وبداية قصة القراءة

لا بدّ أنك تعرفني إذا كنت وصلت إلى هنا، فهل أزيدك تعريفًا بنفسي؟

   أنا خالد، كنت أحب المفاخرة بالشعر فأقول: الشعرُ مني وفؤادي يكنزه، ولكن هذا عهد ولّى، ولم أعد أحب إظهار نفسي شاعرًا، ولا غير شاعر، وإنما أنشأت هذه المدونة لأكتب فيها بغير قيد يقيّدني كما هو الحال في برامج التواصل الإجتماعي، هذا يقيّدك بمئة وأربعين حرفًا، وذاك يقيّدك بصورة، أريد أن أكتب هكذا حرًا، أريد أن أكتب بحيث لا يقرأ ما اكتب أي شخص عابر، بل خاصة ممن يريدون قراءة كتاباتي، وهم قلة، أو منعدمون، وما دمت وصلت هنا، فأنت من القلة الذين لا أكاد أراهم في حياتي، حياك الله في أعلى مكان من قلبي.

   تعلم عزيزي القارئ أنني محب لجمع الكتب وقراءتها، وقد بدأت هذا التوجه منذ كنت صغيرًا، ولكنّي تلكأت سنوات كثيرة عن القراءة، نقول خمس أو ست سنوات كنت أشتري فقط، ولم أقرأ كتبًا بشكل مكثف قبل جمعها، بدأت بقراءة هاري بوتر عندما كنت في العشرين، وانطلقت بعدها.

   إن كنت أريد تذكر أول كتاب اشتريته فكان أيام المتوسطة حين أخذونا برحلة إلى معرض الكتاب، اشتريت وقتها كتاب نكت، كتاب مليئ بالنكت التي لا تضحك أحدًا، وأذكر اشتريت كتاب: تعلم الصينية في 7 أيام، وصرت أبحث عن الشتائم وأشتم بها أبناء صفّي، أذكر منها كلمة: دجو، بمعنى خنزير، عموماً؛ انقطع "بناء المكتبة" إلى يوم سافرت أول مرة إلى المدينة، فأدخلونا مكتبة، وكنت حينها بدأت أميل إلى الشعر، كان عمري ثلاثة عشر عامًا، فاشتريت ديوان علي رضي الله عنه، بطبعة دار المعرفة، وفي الثانوية، بالتحديد عندما أصبح عمري ستة عشر عامًا، توجهت للشعر بشكل كليّ، فصرت أشتري دواوين الشعراء، بما تيسر من طبعات، وتعلمت بعد ذلك عن الطبعات، وأن منها الجيد ومنها السيئ ومنها ورق عليه لطخات حبر.

  وهكذا بتّ أشتري الكتب وأكدسها، ولم أكد أقرأ كتابًا كاملًا حتى بلغت العشرين، وقرأت هاري بوتر، وكان استرسال القراءة معينًا بحول الله على تصور طبيعة القراءة، وجعلت بعد ذلك أقرأ كتب اللغة ودواوين لشعر.

   ونقطة التحول الثالثة كانت مع تقبل الراويات، كنت أكره الروايات كرهًا شديدًا، لسوء اللغة فيها، فأشار علي أحد الإخوة أن أقرأ الجريمة والعقاب، فاشتريتها بترجمة سيئة، وقرأت منها وانسجمت، لكن ما أطلت حتى تركتها، عرفت أنها ترجمة مجرم لا مترجم عندما قارنتها بترجمة الدروبي، ما ترجمه الدروبي في مئة صفحة كشطه ذاك المترجم بثلاثين أو أربعين صفحة.

   وفي الجامعة في فراغ بين محاضرتين، حاولت قراءة كتاب معقد، فكان الأمر غير عملي، فقلت لم لا أقرأ الآن الروايات؟ وكنت علمت أن ساميًا الدروبي هو أفضل مترجم، فتتبعت ترجماته واشتريت ما تيسر لي منها، أذكر منها:

ابنة الضابط لبوشكين

بطل من هذا الزمان لليرمنتوف

الفقراء لدوستويفسكي

القوزاق لتولستوي

جسر على نهر درينا لإيفو أندريتش (هذه الرواية لم أفتحها إلى الآن)

وقرأت أول رواية بعد هاري بوتر، كانت رواية ابنة الضابط لبوشكين، فكانت بوابة إلى قراءة الروايات، وبوابة إلى التعلق بالأدب الروسي في القرن التاسع عشر.

أتوقف هنا، وأكمل لكم في مقالات أخرى إن شاء الله رحلاتي القرائية.

الحَلُّ لكل شيء

 الحلُّ لكلّ شيء حين يجلس وحدَه رجلٌ كثير التفكير والقلق تصل به أفكارُه إلى مُعضِلاتٍ لا حلّ لها، ولا يرتاح باله حتى يبلغ بعَقْدِه الأفكارَ ...